[jnews_post_author]
كتب الأمريكي هوارد فاست رواية جميلة عنوانها ” سبارتاكوس ” وهي عن قائد العبيد الذي قاد الثورة في أيام روما، كان عبدا عاديا بلا أي ميزات، وقد استطاع أن يجمع حوله جيشاً من العبيد ليحارب به أعتى الإمبراطوريات في التاريخ وهي إمبراطورية روما، وينتصر عليها في كثير من المعارك. والطريف بالطبع أن يكتب هوارد فاست الأمريكي كتابا عن سبارتاكوس في الخمسينات من القرن العشرين، أي بعد مرور مئات السنين على ثورته. وقد تعرض الكاتب نفسه للقهر، وسجن بسبب انتمائه الفكري. وإذا كان قد اختار ذلك الثائر فلكي يقول إن التاريخ البشري يتسم بعدم الإنصاف، بغياب العدالة، وإن المسألة هي استمرار وتواصل من النضال والكفاح ضد القهر والظلم. وأكثر الأمور غرابة، بحسب ما يقول هوارد فاست، هو أن تاريخ سبارتاكوس كتب بأيدي أعدائه، إذ لم يبق ممن رافقه وقاتل إلى جانبه أحد كي يكتب سيرته، فقد ماتوا جميعا وهم يقاتلون ، وكتب تاريخَه أعداؤه، وخاصة ذلك الرجل الذي كان يمتلك مقرا لتدريب العبيد على المصارعة.. ماذا أراد سبارتاكوس العدالة أم الحرية؟. لا نعرف بالضبط في الحقيقة، إذ إن كل من يكتب عن هذه الشخصية سوف يختار منها ما يريده هو من الحياة المعاصرة التي يعيشها، ولكني أرجح أنه ثار من أجل العدالة والحرية معاً، وأنه أراد أن يخلص هؤلاء الذين ساروا إلى جانبه من ظلم الإمبراطورية، وأن النتيجة كانت صفرا. لم يتحقق شيء، ولم تتغير أحكام الظلم.
والراجح أن العدالة كانت في أساس كل الأدب الثوري عبر التاريخ، ويسجل محمد مفيد الشوباشي أجزاء من ذلك التعبير الذي قدمه البشر عن حالات القهر، ويتضح ذلك في كتابه الذي سماه ” الأدب الثوري عبر التاريخ “ وأظن أن التعبير عن المظالم الاجتماعية يسبق التعبير عن المظالم السياسية، وفي الأدب الفرعوني، العشرات من نماذج الشكايات المقهورة، وأشهر ما يقدمه لنا هو شكاوى الفلاح الفصيح التي وصلت إلينا منذ عهد الفراعنة، وفيها يشكو فلاح مغمور إلى الفرعون الظلم الذي حاق به بعد أن سُرق حماره، وقد أعاد الأدب في العصر الحديث كتابة نماذج من ذلك على يد علي أحمد باكثير الذي كتب مسرحية ” الفلاح الفصيح” ويوسف القعيد الذي كتب ” شكاوى المصري الفصيح” . ولكن فقدان العدالة الاجتماعية كانت سبباً في العديد من الثورات في التاريخ، وبعض تلك الثورات قلبت الأنظمة السياسية وغيرتها إلى الأبد، مثل الثورة الفرنسية أو ثورة أكتوبر الروسية.
ثمة عدالة أخرى تتحقق أو لا تتحقق في المحاكم بين أيدي القضاة، والقاضي في أي مكان في الدنيا يحكم بين المتخاصمين وفقا لأحكام القانون الذي يزعم أنه عادل، لا وفقاً لأحكام العدالة بالمطلق. ويقول من يحكم له إن العدالة قد تحققت حين ربح الدعوى، أما الخاسر فإن من الواجب سؤاله عن العدالة. هل تشعر أنك خسرت أمام العدالة؟ وهل هذه هي العدالة؟.
وبسبب حرمان البشر الطويل من العدالة فإنهم يكتبون قصصا عن عدالة الحيوانات، ولمارك بيكوف وجيسيكا بيرس كتاب اسمه “العدالة في عالم الحيوان” وأغلب التقييمات والدراسات في الكتاب مستمدة من منظور العدالة بالحساب الإنساني، فالحيوانات لا تعرف شيئا عن القيم، وهي لا تفكر بالطبع، وقلما تعنيها الحرية والعدالة والتوزيع المنصف للثروات المتاحة في عالمها، وهي تتصرف وفقا لغريزتها، ولهذا فإن أي كتاب يقرن عالم الحيوان بأي قيمة من القيم البشرية، سيكون بحثاً عنها في عالم الإنسان، أو هو يفتقدها هنا، ويقول لبني جنسه من البشر انظروا إلى العالم الذي لا يعقل كيف يتصرف ويعيش بعقل ووجدان أخلاقيين. وهذا هو العنوان الفرعي لكتاب بيكوف وبيرس ” الحياة الأخلاقية للحيوانات “.
يبدو تاريخ العدالة في الوقت نفسه تاريخا للظلم ، وتاريخا للعدالة، وتاريخا للكفاح الإنساني من أجل تحقيقها في الحياة التي يعيشونها. و بينما كان المفكرون منذ أرسطو إلى أماراتيا صن يبحثون عن فكرة العدالة، وعن المبادئ التي ينبغي أن تكون عليها كي يضمن البشر تحققها بالشكل المثالي، كان آخرون يبحثون عن العدالة ذاتها، ويضحون من أجلها، ويقاتلون ويقتلون منذ فجر التاريخ المكتوب إلى يومنا هذا. ومن أجل العدالة، وشقيقتها الكرامة الإنسانية خرج الملايين من العرب في السنوات العشر الماضية إلى الشوارع والساحات. صحيح أنهم لم يحققوا شيئاً من مطالبهم، ولكن القضية سوف تظل مفتوحة على السؤال، وعلى النضال .