عمر قدور – الناس نيوز ::
هو يوم صيفي عادي، لكنني أحس بنفسي نشيطاً رائقاً. أسأل نفسي: ما الذي يفعله رئيس دولة إذا وجد نفسه نشيطاً رائقاً؟ ربما لأن مزاجي هكذا أستدعي مدير مكتبي وأوجّه له السؤال ذاته، فأجدني أشعر بمزيد من الحبور وأنا أراه حائراً في النصيحة التي ينبغي أن يسديها لرئيسه المريض ذي المزاج الرائق! يستفيض في التعبير عن سروره بحالتي الجسدية والنفسية، يقول إنه لم يرني يوماً هكذا، بينما أنا متأكد من أنه يكسب الوقت ليعثر على نصيحة يظن أنني أود سماعها منه.
أخيراً يقول إنه من الخسارة تبديد الرواق الذي أشعر به بين جدران المكتب وأضابيره، ومن المستحسن لي قضاء يومي في حديقة القصر مع أسرتي، أو استدعاء واحد من رفاق الزمن الغابر لتسليتي كما كنت أفعل قبل مرضي.
أنظر إليه، أضحك، أقهقه عالياً، وهو على حيرته، وربما على خوفه من ضحكاتي أكثر من عبوسي. أقول له وأنا أضحك: أخذت كل هذا الوقت لتنطق بهذه الدرر! تلحس ط….. وأظن خاطره قد هدأ عندما نطقت الأخيرة بحكم اعتياده عليها.
أذكر كيف كان مندهشاً بشدة عندما سمعها مني لأول مرة، حينها كنت قد طلبت مشورته أيضاً، وقدّم لي رأياً يظنه متعقلاً. كانت قد مضت شهور قليلة جداً على استلامي الحكم، وكنت في تلك الحقبة أكثر اهتماماً بالتقارير اليومية التي يضعها لي على مكتبي.
أذكر من بينها في ذلك اليوم نسخة من الجريدة الرسمية مفتوحة على صفحة الإعلانات الرسمية التي تُكتب بخط صغير في أعمدة مخصصة لها، حول واحد منها كانت هناك دائرة بالقلم الأحمر، من دون أي تعليق.
“ادعى رفعت….. فقدان سند التمليك الخاص بمزرعته على المحضر رقم… في الزبداني. على المعترض التقدم بالثبوتيات خلال 15 يوماً من تاريخ نشر الإعلان في الجريدة الرسمية”.
أعرف جيداً أين تكون هذه المزرعة، وعندما كنت وزيراً للدفاع راودتني على سبيل النكاية فكرة السيطرة على المنطقة كلها هناك وإعلانها عسكريةً يحظر الاقتراب منها.
ها هو رفعت يتصرف بسرعة، مطمئناً إلى أن صاحبها سجين في سجن المزة. يومها طلبت رأي مدير مكتبي فيما فعل أخي، تلكأ في الإجابة قبل أن يسهب في القول إن استيلاءه على المزرعة العائدة لزعيم سابق لا يليق بسمعتي كرئيس، وكأنني لا أعرف ذلك، أو كأنني أردت الحصول منه على موعظة! ضحكت بشدة وقلت له: تلحس ط…. أما رفعت فمازحته بعد مدة بأن طلبت منه دعوة إلى العشاء في مزرعته، لكي يفهم أنني على علم بكل ما يفعل، وأظنه فهِم مزاحي على أنه إطلاق ليده كي يفعل ما يشاء.
منذ الأيام الأولى حرصت على حصولي على تقارير مفصلة عما يخطر وعما لا يخطر في بال أحد، إلى حد أنهم راحوا يبالغون في إرسالها خشية من أن أتهمهم بالتقصير.
أجلس إلى مكتبي، وربما كان أفضل ما يناسب مزاجي الرائق أن أطلع على تقارير مركونة عليه منذ أمد بعيد حتى ألِفتُ منظرها هكذا. هي ثلاثة أو أربعة أضابير، أفردها أمامي لأقرر البدء بواحدة منها. سرعان ما سيخطف بصري اسمه، صلاح. منذ متى هذا المغلف هنا؟ وكيف سهوت عنه وقتها؟ لماذا لم يذكّرني به صاحب المواعظ ذاك؟ هل أشفق على صحتي المتدهورة من قراءة أي شيء يخص غريمي؟ .
عُمْر التقرير الذي أقلّب فيه حوالي عشر سنوات، ملخصه أن مدير سجن المزة دخل إلى المهجع، ولسبب ما خاطبه بالقول: يا صلاح. ثم تفترق الرواية حسب التقرير، فهناك بين السجناء مَن يقول إنه صفع مدير السجن الذي وجّه إليه إهانة مخاطبته باسمه المجرّد، وهناك من يقول إن رفاقه أمسكوا به وهو يهمّ بصفعه.
لم يتخذ مدير السجن أي إجراء عقابي مما يتخذه عادة في حق السجناء العاديين، في انتظار اطلاعي على التقرير والتوصية بما يلزم.
لا أدري كم مرّ على هذا المغلف وهو على مكتبي، فأنا لم أضع عليه إشارة تفيد باطلاعي عليه، وتعليماتي تقضي بتركه ما لم أفعل ذلك أو أطلب من مدير مكتبي التصرف. أهي مصادفة أن أقرأ ذلك اليوم وأنا مرتاح؟ أينبغي أن يتعكّر مزاجي به؟ .
أتخيل غضبه لأن مدير السجن لم يقل له “سيدي”، أتوقع أنه هجم عليه قائلاً له: عندما تخاطبني تقف وتتحدث باحترام، أنا سيدك وسيد سيدك. ثم صفعه لا لأنه يراه جديراً بصفعته، صفعه لأنه رأى وجهي أمامه. أتلمس خدي الأيسر، وكأنه صفعني حقاً بيمناه.
لو سارت الأمور كما كان يرغب لكنت مجرد سفير، في مدريد ربما، ولا أحد يتذكرني الآن أو يسمع. حتى قرار نقلي من السفارة في باريس إلى مدريد سيكون في هذه الحالة روتينياً، وربما كان وزير الخارجية الذي عيّنه هو سيبلغني بأن الأمين العام الفعلي للحزب أوصى بي.
كان العرض الذي وصلني هو القبول بمنصب سفير في باريس، لأن المؤتمر العاشر “الاستثنائي” للحزب سيقرر إقالتي من وزارة الدفاع. هكذا.. من وزير دفاع يصول ويجول، ويمسك بالقوة الأهم، بالجيش، إلى سفير أشبه بالعاطل عن العمل.
من جهته، على الأرجح كان يظن أنه يتصرف بفروسية أمام الجمهور، إذ لا يرسلني من الوزارة إلى البيت أو المحاكمة. الغريب، من جهتي، أنني فكرت في الأمر، رغم معرفتي بأن النسبة الأكبر من قادة الألوية هي إلى جانبي.
ربما فكرت في العرض بسبب ثقته المفرطة بنفسه التي تخالف ميزان القوى الفعلي، ربما بدافع الخوف صارحت أمي يومها بالشقاق بيني وبين رفاق الأمس وبما هو معروض عليّ، وأنا مدرك أن نصيحة الأمهات تأخذ جانب الحرص والسلامة.
في سنوات لاحقة، كلما اكتشفت خلايا في الجيش تابعة له تخطط للانقلاب عليّ، كنت أصبح أقل حرجاً إزاء تخوفي القديم منه، فأراه نابعاً من الحيطة لا الجبن.
ليس الآن، في وقت آخر قد أتذكر ذلك الحديث مع أمي. الآن يطيب لي أن أتخيل أم صلاح، وهي في التسعين من عمرها تسافر من قريتها لتزوره في سجنه في المزة. ماتت أمي، بينما أمه بعافية تكفي للسفر وزيارته. أعزّي نفسي بعيش أمي في الرفاه، ورؤيتها ابنها رئيساً، بينما عاشت أمه لتشقى برؤية ابنها ذليلاً سجيناً بعد العز.
أتخيلها تنتظر موعد إدخالها لرؤيته، بينما يسمح الحراس لزوجة سجين آخر بالدخول محمّلة بما تشاء، أتوقع أنها تعلم من هي صاحبة الحظوة فتشعر بغيظ وذل أشد.
أغبط نفسي عندما تلمع فكرة مميزة في رأسي، حدث هذا عندما أخبروني بعودة زوج المرأة صاحبة الحظوة، رجلنا الذي نفّذ اغتيال عمران في لبنان. أمرت بزجّه في سجن المزة حتى إشعار آخر، وأردفت: هذا هو عقابه لأنه اغتال الرفيق عمران.
في بلد آخر قد يُقتل القاتل لتُمحى آثار الجريمة، أما أنا فابتكرت نهاية عبقرية، أن أكافئه بالاقتصار على سجنه، وبميزات مريحة جداً، بل يستطيع الإنجاب إذا شاء. لم يكن عمران محبوباً من قبل صلاح، لكن لا أظنه كان مسروراً بوجود قاتله على مقربة منه.
أنتبه إلى أنني استرسلت في الذكريات بينما أسند خدي الأيسر على يدي، في المكان الذي تلمّسته عندما فهمت أن خصمي أراد صفعه بصفع مدير السجن. كأنه، من حيث لا يدري، يبهجني ثم يغيظني. فمزاجي الرائق اليوم مدين لصلاح، كان في الأمس قد مات أخيراً، وقد نمت أبكر من المعتاد، نوماً عميقاً طويلاً أفقت بعده على أفضل حال. كنت أتلذذ بسجنه، ولم أعلم أن موته سيجلب لي راحة أعمق من تلك اللذة.
ربما هناك حكمة في أنني لم أفتح هذا المصنف من قبل، فالآن بموته صرت معفياً من البتّ فيما يجب فعله. في النهاية هي صفعة بائتة من رجل أصبح ميتاً، لولا أنه يأبى أن تكون النهاية، يدخل مدير مكتبي ليضع أمامي ورقة، ثم ينسل خارجاً. هي نعوة صلاح، وفي مستهلها: من المؤمنين رجال صدقوا ما عهدوا الله عليه فمنهم مَن قضى نحْبه ومنهم مَن ينتظر وما بدّلوا تبديلا.
لم يُظهر يوماً الإيمان لآخذ الآية القرآنية على هذا المحمل، لكن يناسب طبعه أن يكون هو من أوصى بكتابتها، أتحسس خدي الآخر، بينما يرن في أذني وقْعُ “ما بدلوا تبديلا” كصفعة من قبر رجل لم يمت بعدُ بما يكفي!