عمر قدور – الناس نيوز ::
أراكم تنشغلون بشخص اسمه أمجد يوسف، ارتكب مع آخرين مجزرة في مكان يُسمّى حي التضامن، وأسمع البعض منكم يقول: ألا تكفيه وحشيته؟ وكيف زاد عليها بأن صوّر فعلته؟ هل جلس، مرات ومرات، وتلذذ بمشاهدة الفيديوهات التي صوّرها؟ هل يراها، هذا الوحش الصغير، كما يرى بقية البشر صور وفيديوهات ذكرياتهم العائلية البهيجة؟
دعوني أولاً أعرّفكم على نوع لا تعرفونه من الذكريات العائلية السعيدة، إنه تسجيل لحفلة عيد ميلاد واحد من أحفادي. مثلما تتوقعون، سترون فيه مظاهر الفخامة المعتادة لعائلة مالكة، أقصد عائلة حاكمة، وإذا رأى أحد منكم الفخامة مبالغاً فيها فهو محقّ رغم أن التسجيل بغالبيته هو في حديقة الفيلا.
لن تعرفوا أولاد المدعوين إلى الحفل، فهم ليسوا بشهرة أهاليهم التي قد يرثونها يوماً. في الخلفية صوت عالٍ لأغانٍ أجنبية، تم اختيارها بسبب رواجها، لا بسبب ذائقة شخصية. مع لحظة إطفاء الشموع ستشتعل ألعاب نارية تكفي لمهرجان دولي، وبأصوات قوية مرعبة لمن لم يتوقع ذلك في حفلة عيد ميلاد. إلا أن الرعب سيأتي فيما بعد.
ماذا لو أخذت النشوة الأب، فقرر تقديم هدية إضافية مميزة لطفله فوق أكوام الهدايا التي حظي بها؟ هذا ما سترونه بعد أن يتوقف التسجيل عند مغادرة الأب رفقة الأولاد، ثم عودتهم مصطحبين معه أرانب صغيرة.
وها أنتم في الختام ترون الأب السعيد المزهو بنفسه، بعد أن أخذ الأولاد لشراء الأرانب من محل فخم للحيوانات. ها هو يمسك بواحد، ويعطي لكل طفل أرنباً ويطلب منهم اللحاق به إلى المسبح، ثم يطلب منهم تقليده وهو يمسك الأرنب ويغرقه في الماء. هو يقهقه بفرح ونشوة، بينما الحيوان الصغير يحاول جاهداً التمسك بالحياة.
انتبهوا جيداً لتروا ضحكته التي تغطي وجهه أخيراً وهو ينتصر على الأرنب، انظروا إل ضحكته كأنكم أرانب. انتبهوا جيداً إلى حفيدي الذي قلّد أباه، لكنه فعل بارتباك، بلا فرح أو ضحك هذه المرة، ربما سيضحك كثيراً في تسجيل مقبل. هو، على الأقل، لم يصب بالإغماء مثل طفلين ضعيفي النفس من مدعويه لم يتحملا رؤية قتل الأرانب.
ستسألون: أما كان ممكناً، على الأقل، إبقاء مشهد قتل الأرانب بلا تسجيل؟ هذا لأنكم تفتقرون إلى روح الطرافة، ففي النهاية هي مجرد مزحة، وسيتذكرها الأولاد كلعبة من ألعاب الطفولة، واللذين أغمي عليهما قد يضحكان عندما يكبران من ضعفهما الذي بات ذكرى قديمة.
إذا كانت هذه هي حفلات أعياد الميلاد، لكم أن تتخيلوا ما الذي ستكون عليه أحوال الحكْم. أنا، من قبري، أتخيل وريثي يشاهد يومياً ساعات وساعات من تسجيلات متنوعة، فيها نماذج مشابهة لما رأيتموه في تسجيل أمجد يوسف، وفيها تسجيلات من كاميرات سرية تراقب مسؤولين كبار، بمن فيهم رؤساء أجهزة مخابرات.
أتوقع أنه مهتم بمراقبة الجميع، ولا أستبعد أن يكون أكثر حرصاً على مشاهدة التسجيلات السرية الخاصة بأخيه وأخته وأولادهما.
كنت في مكتبي أفعل ذلك أيضاً، وقد أعجبت جداً بالنقلة من عالم الكلمات فقط إلى عالم الصورة. الصورة أصدق، هي التي تقول بحيادية وكفاءة. لا كرئيس فحسب استخدمت الصورة، بل كأب أيضاً، كأب حريص على أولاده كنت أطلب موافاتي بتقارير مصوّرة عنهم. ربما كان المكلّفون بالمراقبة ينظرون إليّ بإكبار، أي بوصفي أباً لا يستثني أبناءه مما يخضع له الجميع.
ذلك صار ضرورياً مع تدهور أوضاعي الصحية، وعدم قدرتي على متابعة شؤون العائلة كما يجب. ثم صار ضرورياً أكثر مع تهيئة الولد ليصبح رئيساً من بعدي. أذكر كيف قال لي محمد يومها أنه سيبذل جهده لأكون راضياً عن تأهيل الولد، ومطمئناً إلى إرثي بعد عمر طويل. في نبرة صوته، كان هناك قليل من الثقة فيما يقول، فقلت له أن يفعل كل ما يجب من أجل ذلك، وطلبت موافاتي بالتفاصيل لأبقى على اطلاع تام بالتطورات.
للتأكيد، قلت لمحمد إنني أريد كل شيء مصوَّراً، من دون أن يدري الولد بذلك أغلب الأحيان، وأريده أن يدرك ذلك أحياناً أخرى. أريد معرفته على سجيته، ومعرفته عندما يرى الكاميرا مصوبة إليه. تذكرتُ حينها بحسرة تسجيلات أخيه التي دفعت بها إلى النشر بعد وفاته، التسجيلات التي كانت بمثابة أرشيف شخصي لي وأنا أتابعه خطوة بخطوة على درب وراثتي.
أبديت ثقتي بمحمد، لكن كعادتي في الحرص والحذر وضعت عليه عيوناً تراقبه أيضاً، إذ ربما يخفي عليّ بعض الأشياء. ربما لا يفعل ذلك بسوء نية، ربما يكون تقديره سيئاً أو خاطئاً فلا يعرف ما ينبغي لي الاطلاع عليه وما لا يستحق أن أهدر وقتي به.
راحت التقارير والتسجيلات تتوالى بكثافة، التسجيلات المشذّبة المعدّة بإشراف محمد وموافقته، والأخرى التي لا يعلم بوجودها، ومن ضمنها مشاهد قام بحذفها، بعضها طريف أو مضحك، وبعضها الآخر لا قيمة له إطلاقاً. من بين المواقف المضحكة مثلاً محاولاته المتعثرة لتعلم أداء الصلاة، وأخطاؤه اللغوية وهو يتدرب على قراءة نصوص من بينها خطابات قديمة لي.
هناك ما يمكن اعتباره طريفاً لو صدر عن شخص عادي، لا عمّن سيكون رئيساً، كضحكاته بلا سبب أثناء حضوره تدريبات للحرس الجمهوري، أو في اجتماعات لقيادات المخابرات، حيث راح يلقي على مسامعهم النكات المتداولة عنهم وهو يضحك بخفة، بينما ينظرون إليه باستغراب. كان يهزّ برأسه بجدية أمام محمد، عندما كان الأخير يريه تسجيلات لعثراته، ويعِد بعدم تكرارها ثم لا يلبث أن يكررها بالركاكة ذاتها.
مرات عديدة، كدت أن أقلع عن فكرة توريثه، لكن في لحظة خطرت لي فكرة ألمعية، هي أنها بسبب شعوره بالنقص سيحاول التعويض. ما ينقصه فقط لحظة الجلوس على الكرسي، وعندما ستحين سينتقم من ركاكته التي يظهرها الآن، سيُظهِر أقسى ما في نفسه ليثبت أنه وحش يتجاوزني أنا أيضاً. هل أدرك محمد هذا في أيامه الأخيرة وهو كالمنفي خارج البلد؟ هل تذكرَ ذلك الركيك المرمي أمامه أرضاً؟
أنا أتذكر المشهد جيداً، هو يدوس على رقبته، ويوبّخه بنبرة قاسية يائسة: بدك تصير رجّال ولا لأ ولاه؟ كنت أحرص على ألا يعرف بأمر التسجيلات التي تصلني من دون علمه، أما عند هذا فقد تجاوزت السرية السابقة، قلت له ونحن نتحدث في آخر أخبار الولد، وفي المرحلة اللاحقة من التدريبات: انتبه وأنت تقسو عليه، لا تدعس على رقبته، لا تدعس على رقبة الرئيس.
تلكأ قبل أن يجيبني “وكأنه يسأل أكثر مما يجيب” بأنه يمون بحكم موقعه؟ قلت له: المشكلة يا محمد أن الرئيس لا أخوال له ولا أعمام، لا أخوة ولا أخوات، ولا أب حتى. هو، بمجرد جلوسه على الكرسي، يصبح ابن الكرسي.
هناك مَن دُعس على رقبته، وهناك شهود رأوا التسجيل، هناك من صوّرَ ومن جمع التسجيلات، ومن حذف المشهد أثناء المونتاج، ومن اطلع عليه ثم كتب “سري جداً” ليرسله إلي.
ثم تستكثرون أن يُدعس على رأس رجل من العامة ويُسأل: مين ربك ولاه؟ أو تستكثرون على وريثي مجزرة مصوّرة هنا أو مجزرة موثقة هناك! من أنتم؟!