د . محمد حبش – الناس نيوز ::
لعل من المناسب هنا أن نصحح وعياً زائفاً مارسناه بشكل عفوي، حيث يقول كثير من السوريين لقد كان لي زميل أو جار صاحبته عشر سنين ولم أعرف أبداً أنه مسيحي أو درزي أو علوي أو غير ذلك، وإذا كان بعضهم يعتبر ذلك وحدة وطنية فأنا أعتبره في الواقع تكاذباً ومداهنة غير مبررة، وهو يعني أن جاري لم يطمئن لي يوماً فكان يكتم عني أعياده وأفراحه وعباداته وطقوسه، وأن السلامة في أن تكتم ذهابك وذهبك ومذهبك!
في الواقع هذه الثقافة مشحونة بالريب، وهي لا تليق إلا بالفئات المفرطة في العلمانية، والتي تصر على طمس الدين من الحياة، وهو أمر أثبت العلم والواقع أنه غير ممكن بالمرة، ولا تزال مراكز الأبحاث العالمية تتحدث عن 87% من سكان الكوكب ينتمون إلى طائفة ما أو ديانة ما، ويمكن القول بدون تردد أن نصف هؤلاء يقادون من معابدهم.
من أجل ذلك نكتب مرة أخرى عن الطوائف في سوريا كما يجب أن يفهمها السوري عن أخيه في الوطن، وقد بينت في مقالي السابق الدور الإشراقي والعرفاني لآباء الطائفة العلوية في جبال الساحل السوري، وأتحدث اليوم عن أهل السنة.

والوعي بالآخر ضرورة وحتم وواجب، ويجب أن تتعاون الأقلام الشريفة على رسم الصورة الإيجابية للمواطن الآخر بعيداً عن التكاذب والمداراة والمداهنة.
والآن من هم أهل السنة في سوريا؟
نشأ مصطلح أهل السنة منذ العصر الأموي، حيث اختلفتت توجهات الأمة سياسياً، بين مؤيدين للخلافة ومعارضين لها، ومع أن المصطلح له حمولة اعتقادية وفقهية تفصيلية، ولكنني أبحث هنا فقط في الجانب السياسي والاجتماعي منه، واسمحوا لي أن أختار تصنيف المجتمع في أربع تيارات أساسية:
السنة: وهم الموالون للخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين، واختاروا اسم أهل السنة والجماعة
الشيعة: وهم المعارضون للخلفاء، والمطالبون بعودة الخلافة في أهل البيت النبوي.
الخوارج: وهم المعارضون للسنة والشيعة، يرون أن الجميع تركوا الإسلام ويجب تقويمهم بالسيوف.
المعتزلة: هم الذين اعتزلوا ذلك كله وتفرغو للعلم والفلسفة والحكمة.
وهكذا فإنه يمكن القول بأن أهل السنة هي الموالاة التاريخية للخلفاء، وهي السواد الأعظم الذي تفاعل مع الدولة الوطنية خلال الفترات المتعاقبة الراشدين والأمويين والعباسيين والعثمانيين، وكون حاضنته الفكرية على أساس الرغبة في الاستقرار والعمل المفيد.
أهل السنة هم السواد الأعظم من الناس خلال الحضارة الإسلامية، ومن الطبيعي أن يتوزعوا إلى تيارات وملل ونحل، وبشكل عفوي صاروا في الفقه أربعة مذاهب: حنفي ومالكي وشافعي وحنبلي، وفي العرفان تشكلوا أيضاً صوفية وسلفية، وفي العقيدة صاروا أشاعرة وحنابلة، وظل الجميع بهذا المعنى ضمن تسمية السواد الأعظم أهل السنة والجماعة.
وأهل السنة في سوريا هم جمهور هذا البلد الكبير الذي اتسم تاريخياً بالوقوف إلى جانب الدولة الوطنية، واشتهر عندهم القول بوجوب السمع والطاعة لمن يلي أمر الأمة ولو كان متغلباً بغير حق، طالما أنه لم يظهر منه كفر بواح.
ويمكن التعبير عن أهل السنة بأنهم الإسلام الشعبي المرن، الذي يتسع للجميع، ولا توجد محددات صارمة لإدخال الناس فيه، وهذا عاش السوريون في تاريخهم حياة من العافية والتواصل، وقبول الآخر واحترامه.
في سوريا يعبر الجامع الأموي عن الإسلام السني، حيث تنتصب فيه محاريب أربعة تعزز الاعتراف بالتنوع الفقهي، وهناك محراب خامس في مشهد الحسين يعزز احترام السنة للشيعة أيضاً، وفي الجامع الأموي أيضاً قبر النبي يحيى الذي يقدسه المسيحيون باسم يوحنا المعمدان، وفيه أيضاً جرن تعميده، ولا يزال القبر والجرن في وسط المسجد، يحترمه المسلمون جميعاً، وفي المسجد أيضاً بيت المال الذي كان يديره القديس المسيحي يوحنا الدمشقي، وكان المال كله بيديه، وكان ينفق منه على دولة تمتد من السند إلى الأندلس وهو ليس مجرد مسيحي عادي بل كاهن شهير، ومبشر مسيحي معروف وقد لقبته الكنائس كلها فيما بعد بالقديس يوحنا.

لقد عاش أهل السنة حضناً دافئاً للأقليات، وامتداداً طبيعياً لهم، ونمت فيهم نزعة الأخ الأكبر في غيرته على إخوته وحمايته لهم، وقد تقبل المجتمع هذا اللون من المسؤولية، وتعاونوا معه، وكانت النتيجة أنه خلال أربعة عشر قرناً لم تتوقف المساجد والكنائس عن النداء معاً للصلاة، وعاشت متجاورة متقاربة، ولم يحصل في تاريخ الشام كله أن تدميراً متعمداً أصاب الكنائس أو أيقوناتها أو صلبانها أو رموزها في دمشق، ولم يوافق السنة أبداً على تهجير المسيحيين أو رحيلهم من الأرض، وظلوا يوفرون الدفء والأمان لكل مسيحي.
وربما كانت الحادثة الوحيدة المشهورة هي حادثة طوشة النصارى كما يسميها أهل الشام 1860م حيث وقعت فيها اشتباكات طائفية مريرة ظهر دور الأمير عبد القادر الذي وفر الحماية للمسيحيين بقوة وشجاعة، وفتح داره أولاً، ثم أرسل رجاله إلى قلعة دمشق ففتحوها وحرسوها وآووا فيها النصارى حتى انتهت الطوشة الأثيمة.
للسنة رموز كثيرة، بعضهما استخدم للحرب والقتال كابن تيمية وابن قدامة المقدسي، وبعضها استخدم للحب والوصال كابن عربي وابن سبعين وعبد القادر الجزائري، ولا شك أن الطوائف تنظر بريبة وقلق لفتاوى المتشددين التي أفرطت في تكفير المسلمين وطوائفهم، ولكن يجب ملاحظة أن الشام لم تعتمد أبداً هذا التفسير الطائفي المتشدد للدين، وقد وقف فقهاء الشام باستمررا ضد التطرف، ووفروا بيئة حاضنة للتسامح والرحمة والمحبة.

أهل السنة محافظون عموماً لديهم اعتقاد راسخ بأئمتهم السابقين، وهم يعتبرون سواد الأمة، وقد عاشوا تاريخياً في كنف الدولة الإسلامية القوية، ويمكن القول إن الدول التي تعاقبت على حكم سوريا من أمويين وعباسيين وإخشيديين وأيوبيين ومماليك وعثمانيين وصولاً إلى الدولة الوطنية، كانت تعتبر دولاً سنية بالمعنى التقليدي للكلمة، حيث كان منهم الحكام والفقهاء والقضاة، ويجب القول أن الفترة الأعظم من تاريخ الدولة الإسلامية كانت فترة تسامح ووئام، وازدهرت فيها الحياة المجتمعية، وتوفرت للطوائف جميعاً حريات معقولة.
وشهدت سوريا خلال التاريخ نحو مائة عام حكم فيها الفاطميون، وقد كانوا شيعة إسماعيلية ولم يعرف عنهم التعصب الطائفي، ولم يتغير في الواقع الاجتماعي شيء كثير، وكان الفاطميون يختارون ولاة دمشق من القادة السياسيين المعتدلين، ولم يحصل أن منح أي حاكم فاطمي في دمشق لقب الداعية الفاطمي، وقد اقتصر دورهم على تدبير البلاد عسكرياً، ولم ينالوا أي شهرة لافتة في الحياة المجتمعية السورية، ولو ذكرت أسماءهم فلن يتذكرهم إلا المتخصصون، وظل الحكم الإداري والتوجيه الديني شأن القوى المحلية في سوريا.

عانت الطوائف الدرزية والاسماعيلية والعلوية واليزيدية فترات صعبة إبان المنعطفات الفاصلة ومن ذلك الحروب الصليبية والغزو التتري ودخول العثمانيين إلى الشام، فقد وجدت هذه الطوائف نفسها في محنة شديدة، حيث يقتضي التحول من ضفة إلى ضفة مغامرات خطيرة بالانتقام والانتقام المضاد، وهو ما يحاول العقلاء أن يتجنبوه اليوم.
وباستثناء هذه المنعطفات العاصفة فقد كانت الطوائف تعيش في استقرار جميل، ووجد أعلام من المسيحيين والطوائف فرصاً كبيرة للإسهام في البناء الاجتماعي، وبرز منهم شعراء وأدباء وأطباء ومبدعون، واعتنى السنة عناية كبيرة بأضرحة أهل البيت السيدة زينب والسيدة رقية، وضريح زين العابدين في حماه، وباتت هذه المزارات الشيعية مزارات سنية أيضاًـ
تعود الناس أن يزوروها في حوائجهم، وبات مشهوراً أن من أراد قضاء حاجة أن ينذر عند قبر السيدة زينب، وظهرت في جبل العرب مجامع التحية والصلاة ومقامات النبي شعيب، كما ظهرت في جبال العلويين المقامات الخضر على رؤوس جبالها الجميلة، كما ظهر في مناطق اليزيديين مباني طاوس ملك الذي يقدسه اليزيديون.
وازدهرت الصلة بين القادة الروحيين من مسلمين ومسيحيين، حتى ظهر أدب الديارات، وهو أدب شعري خاص بالفقهاء والشعراء الذين كانوا يزورون الأديرة ويدونون لقاءاتهم الغنية مع الرهبان، وفيها تفاصيل المحبة والمودة، ولم يحصل أن تعرضت هذه المقدسات الروحية لأي أذى خلال التاريخ المستقر لأهل السنة.
وازدهرت الكنائس المسيحية والأديره خاصة تلك التي في الجبال العالية، واعتاد المسلمون السنة أن يزوروها في صيدنايا ومعلولا ووادي النصارى باحترام وتقدير، ولم يحصل أن اعترض المسلمون على خيارات النصارى في اختيار مناسكهم وشعاراتهم وشعائرهم وبطارقتهم، كما أظهر السنة احتراماً متميزاً لأعياد المسيحيين في الميلاد والفصح، وباتت أيقونة السيدة العذراء مريم وصورها وشموعها تزين بيوت أهل السنة ويذكرونها في صلاته ودعائهم وشفاعتهم باحترام كبير.
لمعالم إخوانهم الشيعة في البلاد، وبات أهل السنة يعتبرون مزارات السيدة زينب والسيدة رقية وزين العابدين مراكز روحية غامرة يعقدون عندها النذور، ويتواصونها بالزيارة والمحبة.
إن السواد الأعظم من أهل السنة أهل تسامح ومودة، وإذا كانوا سياسياً يحتفون بالدولة الأموية فإنهم عاطفياً يحتفون بأئمة أهل البيت، وتجد في أهل السنة ألف علي وألف حسين وألف حسن، حتى تجد معاوية واحداً أو يزيداً واحداً، ومساجد سوريا فيها ألف مسجد علي وحسين وحسن وجعفر، وليس فيها مسجد واحد باسم يزيد، وكذلك الشوارع والمدارس والمشافي، أما اسم فاطمة وزهراء فهو أشهر أسماء نساء السنة في سوريا على الإطلاق.

أما الأناشيد السورية الأكثر رواجاً لدى أهل السنة، فهي تلك التي يتلوها السوريون في موالدهم، وهي أروع قصائد الفرح والأمل بفاطمة وعلي والحسين، وجولة واحدة على مساجد أهل السنة في سوريا فتسمع دون شك تلك القصائد من مثلكم لأبي الزهراء ينتسب ليت الملوك لها من جدكم نسب، سلم على فاطمة، أبا الزهراء قد جاوزت قدري.. وغيرها من القصائد الواسعة الانتشار، ولن تجد قصيدة واحدة تمجد يزيد أو الوليد او معاوية، وقد ازدادت هذه النزعة الحاقدة اليوم في غمار نزعات الثأر والانتقام التي لا تشبه في شيء روح السنة في التسام بها أهل الجهل .
بقي ان نقول هذه العقليات المتطرفة اليوم والتي تعتمد التبخيس من أهل البيت، والاعتزاز بالنواصب ليست على الإطلاق منهج أهل السنة والجماعة، ومن المؤسف أن تصدر في هذا السياق فتاوى متطرفة تنسب لابن تيمية والإمام الغزالي وتدعو إلى تكفير الطوائف وإبادتها بوصفها حائدة عن الصراط المستقيم، فهي فتاوى تطرف، لم يأخذ بها المسلمون السنة إلا في العصر الداعشي، وهي لا تشبه تسامح الإسلام في شيء.
ومن المؤسف أن عدداً من الفتاوى الجديدة في تحريم تهنئة النصارى بأعيادهم راجت في السنوات الأخيرة، ولكنها في الحقيقة ليست تراث الشام ولا حلب، بل هو تراث الفرق المتشددة الخارجة على أهل السنة والجماعة.
والأهم من ذلك ان الصورة التي رسمتها التنظيمات المتطرفة الحاقدة على غرار داعش لا تشبه أهل السنة في شيء، وقد جاءت حرباً على السنة قبل سواهم، وأساءت أبلغ إساءة للسلم الأهلي والحياة الكريمة في سوريا.
