د . محمد حبش – الناس نيوز ::
تعتبر حوارات العقل والغيب لوناً من الجدل الثقافي، حيث يتبارى المتحاورون في تقديم العقل أو الغيب، وتندرج في العادة ضمن الحوارات النخبوية التي تهم جانباً من الناس، وتتم عادة بين المتخصصين، وتبدو في نظر كثير من الناس جدلاً سوفسطائياً لا معنى له.
ولكن هذا اللون من الحوار بات اليوم على رأس المواقف الفاصلة التي تحدد علاقة الإنسان بالمجتمع من حوله، وقد اكتسبت هذه الحوارات أهمية استثنائية بعد إصرار التيارات الدينية المحافظة على إقحام اللاهوت في الناسوت، وفرض قانون ثيولوجي يستمد أصوله وفروعه من الغيب، ويفرضه على المجتمع.
وفي الحقيقة فليس هذا المقال لرفض الاقتباس من الغيب، بل إن كاتب هذا المقال مؤمن للغاية بدور حتمي للغيب، ولكنه يسعى لجعل هذا الدور إيجابياً ونافعاً للهيئة الاجتماعية.
يجب الاعتراف بأن ثلاثة أرباع الكوكب لا زالوا يؤمنون بلون من الغيب، سواء اقتبسوه من الوحي الديني أو الفنون المختلفة، وتظهر مراكز الأبحاث في دراسات الأديان أرقاماً متقاربة عن علاقة الإنسان بالدين، وتقف عموماً عند حد 87% من سكان العالم يدينون بدين ما، ومهما اعتبرنا الإيمان شكلياً لدى كثير منهم فإنه لا مبالغة في القول إن أكثر من نصف سكان الكوكب يقادون من معابدهم.
ولا يقتصر الأمر على الشعوب الضعيفة أو الفقيرة، بل إن الشعوب المتفوقة تعليمياً مايزال في واقعها حضور غير عادي لثقافة الغيب، عبر الوحي أو عبر السحر، ولعل أوضح مثال على ذلك تلك الصورة الأليمة الأسبوع الماضي في سيؤول عاصمة تكنولوجيا النمور الآسيوية، حين سقط 155 قتيلاً في يوم واحد وهم يركضون في احتفالات الهالوين القائمة على تراث سميك من الأساطير والعجائبيات، والغيب الذي يطارده الهالونيون ليس قائماً على غيب الوحي ولا على غيب الفنون الروحانية بل على غيب الهَبَل، ولا يوجد كلمة أدق من كلمة الهبل للتعبير عن هذا اللون من الدوافع التي تحرك الهالونيين في كل مكان في العالم، وبالتأكيد فلولا ممارسات السحر والخرافة لفقدت الهالويين سحرها وجاذبيتها وعادت عيداً كئيباً مملولاً.
وفي السياق نفسه تجدر الإشارة هنا إلى هاري بوتر الشخصية العجائبية التي ابتكرتها الكاتبة البريطانية المذهلة رولينغ، ونجحت في اكتساح سوق القراءة في العالم، وأصبحت أكثر الكتب مبيعاً في العالم، وتحولت بسرعة إلى أفلام هوليودية تنفق فيها المليارات، وتم اعتبار كينغ أول مليارديرة تنجح في جمع ثروتها من الرواية، مع أن الرواية ليس فيها أدنى قسط من العقل، وهي خوارقيات وعجائبيات وسحر ومكر لا يمكن أن يصدق شيئاً منها عاقل!
ما تريده هذه المقالة هو أن توجه الحوار في اتجاه صحيح، فليس المقصود الانتصار لتيار العقل أو النقل، خاصة أن مساحات المعارك التي يخوضها العقل والنقل ليست محسومة لأي من الفريقين، فالغيب والعقل قيمتان موجودتان لدى المتدينين ولدى العلمانيين، ولا يعسر على محلل دقيق أن يميز خيط العقل من خيط الغيب في كل مرصد ثقافي لأمة من الأمم، وهناك قائمة طويلة من أبرز رجال التنوير والعقل في التاريخ يقودها رجال دين علمانيون من نوع ابن رشد وجلال الدين الرومي، وكذلك فإن عقائد الغيب موجودة في القارات السبع، ولا يخلو منها مجتمع من المجتمعات، وهي تتغلغل في الحياة الأكاديمية والبحثية والاجتماعية، ويقدم بين الحين والآخر أكاديميون مشهورون قراءات صادمة عن إيمانهم الغيبي وتسليمهم بأشكال من الغيب لا يمكن أن يقوم عليها برهان، ولكنه الإنسان… ومن يستطيع تفسير الإنسان.
ولكن المشكلة الوحيدة التي يتعين مواجهتها هي قيام أهل الغيب بفرض ما يقتنعون به في الحقل السياسي وإرغام الجمهور أن يلتزم ما اختاروه له باعتباره اختياراً من الغيب فرضه الله على عباده.
وربما كان أوضح أشكال الحكم بأمر الغيب هو الحكم الإيراني القائم على ولاية الفقيه، والفقيه هنا ليس إلا الرجل النائب عن الغيب، وعن صاحب الغيبة الإمام الغائب “عجل الله فرجه”، حيث لا يتردد الحكم الإيراني في تكرار مرجعيته السلطوية في كل يوم باعتبارها تفويضاً من الإمام الغائب، الذي يحق له دون سواه أن يحكم البلاد والعباد، ويقضي في الحقوق، بمرجعية غيبية عميقة سابحة في المجهول، ومع أن الروايات تحدد اليوم والزمان والمكان والمغارة التي يأوي إليها المعصوم، ومن الممكن أن يخضع ذلك كله للفحص العلمي، ويمكن البحث أركيولوجياً بشكل موضوعي عن الإمام الموعود في البقعة المحددة في الرواية زماناً ومكاناً، ولكن ذلك كله ممنوع بقوة الغيب، وسيبقى الحكم لنائب الإمام الغائب الذي يقوم بدور المبلغ لرسائل لم يسمعها أحد، ولم يشاهدها أحد.
ولكن حكم الغيب والغائب لم يجلب المعجزات لإيران، وعلى مدى أربعين عاماً متتالية توقفت التنمية بشكل مرعب، ولم يتدخل الغائب المعصوم لتحسين أحوال الناس، أو القضاء على أعدائهم، واكتفى بتوجيه وكلائه روحياً من مغارته في جبل رضوى بالموصل، ولم يعد الشعب يرى في الشخوص الممثلة للغائب المعصوم إلا سدنة هياكل الوهم، خاصة بعد أن فرضوا على الناس شكل اللباس والطعام والزواج والطلاق في نظم جامدة من خشب يتم تحنيطها وعزوها إلى الإمام المعصوم وعلى الجمهور أن يقول سمعنا وأطعنا، وهكذا فقد انفجر الشارع الإيراني اليوم بالغضب، بعد أن سئم حكم الشاهد بتفويض الغائب، لماذا تختار الأمم حكامها ويختار الغائب لنا حكامنا وأنظمتنا وقدرنا.
العالم كله يؤمن بلون من الغيب، وللغيب رسالة جميلة ورقيقة، تمنح الناس الأمل والبسمة والرهبة، ولكنها تتحول إلى عقار قاتل حين يصبح الغيب برنامجاً سياسياً يحكم الناس، ويضطر الكاهن لممارسة دور غير منطقي حين يحشر نفسه في الموقعين عن رب العالمين، وفيما تصدر الأحزاب برامجها انطلاقاً من حاجات الناس وتجارب الأمم فإن الكاهن يصدر برنامجه من المعصوم الغائب، المدّرّك للكون، والذي يعرف من غاره الغامض الحق والصواب في كل زمان ومكان، وقد يوكل إلى الناس بعض التفاعل الديمقراطي لتأمين الخدمات، ولكن القرارات الاستراتيجية الكبرى محصورة بمصدر الغيب، الذي ينقله الولي الفقيه، وليس للناس من دور إلا أن يقولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.
الثورة في إيران تستخدم لغات شتى وأساليب شتى ولكنها في النهاية تمرد على قرارات خوارقية غيبية لا صلة لها بحاجات الإنسان، فرضها الكهنة عبر التاريخ في الثياب والطعام والزواج والطلاق والصناعة والتجارة، ثم قيل للناس: هذا حكم الله، قل أأنتم أعلم أم الله، قل أتعلمون الله بدينكم؟
لقد نسف النبي محمد كل هذه الأوهام الكهنوتية التي كانت راسخة في الأمم، وفصّل للناس أمر صلاتها وصيامها وحجها، ثم قال بكل شجاعة: أنتم أعلم مني بأمور دنياكم، ولا شيء عند صاحب الغيب يمليه على صاحب الشهادة، إلا في سياق العلم الموضوعي والبرهان.