سجلت الانتخابات الأمريكية مطلع نوفمبر الحالي في ولاية ميشيغان سلسلة مفاجآت مهمة، فقد سجل ثلاثة من المهاجرين العرب مواقع قيادية فريدة فيها، حيث فاز عبد الله حمود اللبناني برئاسة بلدية ديربون، كما فاز أمير غالب المهاجر اليمني بمنصب رئيس بلدية هامترامك، وفاز بول نيازي اللبناني المهاجر برئاسة بلدية هاينس.
وأحب من البداية أن أقول إنني لا أفرح بهذه الأسماء على أساس أنها انتصار للمشروع العربي المقاوم أو المشروع الإسلامي الممانع فهذه الأفكار ليست موجودة هناك على الإطلاق لا في خيال الناخب ولا في مشروع النائب، ويؤلمني أن التيارات المتشددة تروي هذه الأخبار على منطق أن الإسلام قادم فاستعدوا أيها الغرب ليوم الملحمة الأعظم، الذي ننتصر فيه عليكم ونقتلكم قتل عاد وإرم!!! هذه الأوهام التي يتم الترويج لها بشكل شعبوي كلما سجل عربي أو مسلم نجاحاً في العالم هي في النهاية لون من صناعة الكراهية ولا تخدم الناجحين ولا الفاشلين.
نحن نروي هذه النجاحات الحقيقية للمهاجر الواثب عربياً أو كردياً، مسلماً أو مسيحياً، لبعث إرادة الأمل والتعاون، ومواجهة فكرة الكراهية البلهاء التي حولت جيلاً كاملاً إلى جيل من المتربصين، لا يرى في العالم إلا عدواً ولا يرى في سياساته إلا تآمراً على الإسلام والمسلمين، ولا يرى نجاحاته إلا حصيلة سرقة خيراتنا ومواردنا وتراثنا الأسطوري.
فيما كنت قافلاً من حوار في سالزبورغ بالنمسا جنة الله على أرضه، تحدثت إلى بعض الإخوة في فيينا عن النجاحات الهائلة التي حققتها الحضارة النمساوية لجهة حقوق الإنسان وكرامته، وبشكل خاص رعاية اللاجئين وكفالتهم، وكنت أتحدث باحترام وتقدير حين قال لي لاجئ سوري كريم: ولكنهم سرقوا خيراتهم من أرضنا واستعمرونا واحتلوا بلادنا فاغتنوا من خيراتنا!!
لا أفهم كيف يمكن للاجئ يعيش على السوشال النمساوي، أن يتهم بلداً يطبق عليه هذا القانون النبيل في رعايته والإحسان إليه، بأنه شعب لص وحرامي.. مع أن النمسا لم تصل في التاريخ الحديث ولا الأوسط ولا القديم ولا الحجري ولا الحديدي ولا الطباشيري إلى تخوم سوريا التي تفيض فضة وذهباً وألماساً يدفع جيوش الأرض للتآمر عليها!
وهل إذا وصلت قبل مئة عام فرق عسكرية فرنسية إلى دمشق بعد حروب طاحنة ومشانق ومقاصل يعني أن العالم كله يتناوب على نهب خيراتنا!!
ومع أنني أرفض الاستعمار بكل أشكاله، ولكنني أجزم من دون تردد أن ما أنفقه الفرنسيون في سوريا أكبر بكثير مما أخذوه، وجزاهم الله خيراً على المشاريع الرائدة التي قدموها للشام: عين الفيجة وقصر العدل والبرلمان وجامعة دمشق وشوارع دمشق وحلب، وغيرها، ومن المؤسف أن حكوماتنا الوطنية خلال السبعين سنة التالية لم تنجز بعض ما أنجزوه، كما أن ضحايا الاحتلال الفرنسي على مدى ستة عشر عاماً لا يبلغون حصاد شهر واحد من الحرب المدمرة التي واجه فيها النظام (الوطني) شعبه الثائر، لا في الشهداء ولا في اللاجئين ولا في النازحين، وأعتقد أن الاستعمار يحتاج إلى قرون من الزمن لينجز ما أنجزته حكوماتنا الوطنية بشعوبها من التنكيل والعار والتشريد والمذلة وهم يخطبون فينا عن مقاومة الاستعمار والإمبريالية.
وأحب أن أسجل هنا أن الاستعمار الفرنسي خرج من البلاد المحتلة بضغط من أحزاب الحرية الفرنسية الذين يثقون بالإنسان ويعتقدون أنه ليس من حق أحد أن يكون وصياً على أحد، ويجب على فرنسا أن تخرج من البلاد التي تحتلها، وقد التقت أحزاب الحرية بأحزاب اليمين التي طالبت بالانسحاب لأسباب أخرى تتصل بالمال الفرنسي الذي ينبغي ألا يصرف على الآخرين، وهذه كانت هي الأسباب الجوهرية في خروج فرنسا من مستعمراتها ونحن نسطح المسألة إذا تصورنا أن شباب باب الحارة هم من أخرجوا الفرنساوي.
وإذا كانت بلادنا هي الدجاجة التي تبيض ذهباً فما بال هذا الذهب لا يسعد أبناءه وقد رحل المستعمر منذ خمسة وسبعين عاماً، وتفاخر سوريا بأنها البلد العربي الوحيد الذي لم يستجلب شركات أجنبية لاستثمار نفطها، وأنها حافظت على الثروة الوطنية بأيد وطنية ولكن الكارثة أننا لم نتمكن من تطوير مواردنا ولا بنسبة عشر ما أنجزته الدول التي استعانت بخبرات العالم، كما أن ما تم جمعه من هذه الثروات ضاع من الباب الخلفي للمقاومة، حيث كانت ترصد لخزينة الدفاع الوطني الذي بدد هذه الثروات وهو يعمل جاهداً منذ ستين سنة على الاستعداد للمعركة ولا صوت يعلو على صوت المعركة.
وبالعودة إلى الناجحين من العرب في عواصم الأرض، فإنها رسالة مختلفة بكل تأكيد، وقد حان الوقت لنعلم أننا نخادع أنفسنا بتبرير العسف والقهر وقمع الحريات بأنها ضرورات للاستعداد للمعركة، ولنعلم بوضوح أننا لسنا بحاجة إلى المعركة أصلاً، فالعالم قد صار في مكان آخر، وعلينا احترام القانون الدولي وقد بات العالم لا يتقبل أبداً مبدأ تغيير الواقع عن طريق الحروب، وبات علينا البحث عن الحلول السياسية لمن يعاني المظالم، ولا شك في أن تحصيل بعض هذه الحقوق، أفضل بألف مرة من ضياعها جميعاً في غمار ما ينفجر من عنف ودماء ولجوء وتشريد لا تعود على أصحابها بأي خير.
مرحى لأولئك الذين يحققون النجاحات في كل مكان في العالم، ويقدمون الدليل الضروري لهذه الشعوب المنكوبة بحكوماتها الفاشلة أن العالم ليس عدواً لطموحنا، ولا يعيش على سرقة خيراتنا، وأن النجاح نتيجة حسن تدبير وتعاون وتكافل، وعلينا أن نبحث عن أسباب فشلنا فيما جنته أيدينا وليس في اتهام الآخرين، فكراهية الناجحين لا تصنع للفاشل نجاحاً بل تزيده فشلاً، وتحول دون قيامه بتطوير نفسه وإصلاح واقعه.
في العالم الإسلامي اليوم 57 دولة مستقلة، يعيش منها 51 دولة في علاقات حسن جوار وتعاون مع الأمم، وكثير منها بات ينافس على المواقع المتقدمة في جودة الحياة واستقرارها، وفي هذا السياق نشير إلى أمم قوية كماليزيا وتركيا وأندونيسيا والخليج العربي والمغرب وهي بلاد باتت متطورة وسعيدة في محيطها، ولا يدخلها من جيوش الأرض أحد إلا وفق مصالحها وبإذن وشروط، وهي تحقق تعاوناً جيداً ونافعاً وإيجابياً مع الأمم الكبرى.
وحدها الدول الفاشلة الست التي فشلت في إسعاد شعبها فراح حكامها يطاردون طواحين الهواء من إمبريالية وصهيونية واستعمار وأصنام صنعوها ما أنزل الله بها من سلطان تأخذ موازنتهم وتدمر مواردهم، وتمزق وحدتهم، ولا يجيدون إلا النواح على أطراف الكوكب، بأننا مستهدفون يتآمر علينا العالم يريد سرقة خيراتنا ونهب ثرواتنا، وعلينا أن نوقف كل التنمية وكل البناء وكل التعاون الدولي حتى تنتهي المعركة مع المشروع الأمريكي الصهيوني الإمبريالي المتوحش، وكل التنمية مؤجلة ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة!
محمد حبش