في ” عصر المعجزات ” يعود ميشيل من عالم الغيب ليبارك للجميع ، بصوته الخفيض من تحت كمامة الأكسجين ، بقدوم شهر رمضان المبارك ، وليترك فيهم وصيته الأخيرة ، وليرحل عن دنياهم التي لم يعد فيها ما يسر الناظرين !
قبل أيام تحدثت مع صديقنا المشترك نادر جبلي المقيم في باريس لينقل بصوتي رسالة صوتية إلى ميشيل بسرور الجميع بسماع تهنئته ووصيته الحكيمة بصوته بعد عودته إلى الانتعاش والتعافي ، ولم يدر بخلد أحد بأنها عودة الروح لساعات فقط ، وكان الأخ نادر قد حكى لي كيف أن ميشيل كان قد وصل إلى وضع ميؤوس منه في المشفى فقرروا نقله إلى مستشفى أفضل حيث عادت إليه الروح من جديد ، ولكن ، كما رأينا ، وللأسف الشديد ، فقط لكي يترك في السوريين وصيته الأخيرة ، ثم يفاجئنا بمغادرته ، وبشكل نهائي ، دنيانا إلى عالم الغيب !
لا أظن أن هناك سوريا واعيا له صلة بالشأن العام لم يصله وهج من ميشيل كيلو على مدى نصف قرن ونيف ، ثقافة أو أدبا أو سياسة، أو فكرا وفلسفة ، بشكل عام ، وبالأحرى من نشاطه العملي .
والأهم لدى ميشيل كيلو ، هو الجمع الخلاق بين الفكر والممارسة ، وعدم الانزواء في برج عاجي بعيدا عن الواقع والمجتمع والإنسان ، فقد كان له مساهمته الفكرية والعملية في معظم الأنشطة والتنظيمات الوطنية ، ولكن دون أن يصبح أسيرا لأي منها ، وبكلمة ، فقد كان مثقفا عضويا بكامل معنى الكلمة !
لقد برز نشاطه ، مثلا ، في باكورة أنشطة المجتمع المدني في ربيع دمشق ( لجان إحياء المجتمع المدني ) في أواسط عام 2000 والتي انتشر بيانها الأول على كامل المساحة السورية المكانية والاجتماعية ، وكنا ، كمكتب تنفيذي من 15 شخصا ، ننتقل من مدينة لأخرى لعقد الاجتماعات مع الكثيرين الذين كانوا ، تحت ضغط القمع غير المسبوق ، قد فقدوا الثقة بالسياسة ويئسوا من التفكير بالمستقبل . وإذ بالشعب السوري يخرج كالعنقاء من تحت الرماد وينظم ربيعا بالغ الحيوية والنشاط غير مسبوق في العالم العربي !
وكان الأمل أن يثمر الربيع في صحرائنا القاحلة كل ما تحتاجه أمتنا لتخرج من عنق زجاجة التخلف والبؤس والاحتباس التاريخي إلى العالم الجديد المفتوح على التقدم والنهوض الشامل ، وبالأخص وهي تمتلك من المقدرات والطاقات المادية والبشرية ما لم يكن متاحا لأكثر الأمم ، بينما هي ما زالت محكومة بالطغيان والفساد ، والانحطاط والاستبداد ، أكثر من أي أمة أخرى في العالم !
فلماذا كان علينا أن نقبع في محاجرنا ، كالسلحفاة ، ولا نخرج إلى النور ، تحت ضغط الخوف من اتهامنا بأشنع الاتهامات ، مثل تقويض همة الأمة ، أو معاداة النظام الاشتراكي ( كذا !) أو التحريض على الحرب الأهلية ..إلخ ، كما حكى لنا ميشيل الكبير في برنامج “الذاكرة السياسية ” على شاشة ” العربية ” قبل ثماني سنوات ، كيف استدعاه ، مع صديق آخر ، أحد سجاني مثقفي الشعب السوري ليقنعهما بأنهم لم يقوموا باعتقالي ( في 9/9/2001) بسبب معارضتي للفساد ( كما كان يعرف القاصي والداني ) وإنما لأني كنت أحرض على الحرب الأهلية !!! ولما نفى ميشيل عني هذه التهمة وطالبه بالدليل ، فلم يكن لديه غير قولي :” إذا استمر تطورنا على هذا المنوال فإنه سيقود إلى انفجار اجتماعي ” ، عندها قال له ميشيل : إذا كنت صديقك وأراك تشعل السيجارة من السيجارة وقلت لك ” توقف عن التدخين وإلا فإنك ستصاب بالسرطان القاتل ، وإذا حدث لاحقا وأصبت فعلا ، فهل أكون أنا سبب إصابتك ، أم أكون أحرص عليك من نفسك وأنا أنصحك لكي تحمي نفسك من السرطان ؟ ” !
هكذا ” كنا عايشين !” ، محكومين بمن لايجدوا ما هو أجدى لحماية فسادهم واستبدادهم واستمرارهم في تدمير الدولة والمجتمع في سورية غير تلفيق الاتهامات للعقلاء والشرفاء لـ” تنظيف ” محيطهم منهم . ولم يطل الوقت حتى أصبح ميشيل نفسه نزيل أحد زنازين ” منتجع عدرا ” الذي بني في الثمانينات كأكبر ” مشروع” في خطط التنمية في الثمانينات في سورية ! ، وربما الأكبر من نوعه في العالم ! ، هذا في وقت كان الشعب السوري فيه يتلقى ” دورة تدريبية ” على الانتظام في طوابير المواد الضرورية ، ولكننا ، مع ذلك ، كنا عايشين أفضل منا الآن ، لأن الدخل كان ، بعد كل انهياراته انذاك ، أفضل منه الآن بثلاثين مرة على الأقل ، ولم تكن شركة “تكامل” الحالية ، صاحبة ” البطاقة الذكية ” قد ظهرت بعد ، كمنافسة لـ ” سيرياتيل “السباقة لها في الشفط والتشليح ونهب الدولة والمواطنين المعدمين ، والتي ظهرت آنذاك ، كـ “ثمرة ” لاعتقالنا كـ “محرضين على الحرب الأهلية ! “.
لم يكن ميشيل يوما متغيبا عن تفاصيل هذه الوقائع الميدانية، منعزلا في برجه الثقافوي العاجي ، كما يقبع معظم “مثقفي” الشعب السوري !
هذا ميشيل يقول في وصيته الأخيرة التي عاد من الغيب لساعات ليبلغها ، ثم يعود :
“اتحدوا ، وإلا فلن تبلغوا شيئا من الحرية والكرامة !
ابدؤوا مراجعة نقدية توضح ، بصراحة وبمسؤولية وبشفافية ، أين أخطأنا وأين أصبنا ، وكيف يجب أن نعيد بناء أحوالنا لنستطيع أن نتابع طريقنا نحو سورية الحرية والكرامة !”
في كتاب الائتلاف الذي ينعى فيه الراحل ميشيل كيلو ، يقولون : إنه كان عضوا بارزا في الائتلاف ثم استقال منه بسبب الاختلافات !
فهل يبدأ زملاؤه السابقون في الائتلاف بتنفيذ وصيته بـ “المراجعة النقدية “وتوضيح الاختلافات التي أودت بميشيل إلى الاستقالة ؟ بل هل زالت هذه الأسباب أم تعمقت منذ استقالته ؟ بالطبع ، على أن لا تقتصر المراجعة النقدية على إدانة الآخرين من أجل تبرئة الذات ؟
أليست أسباب استقالتك ، أيها الغالي الراحل ، من الائتلاف هي نفسها الأسباب التي جعلتنا ، أنت وأنا ، (وربما كثيرون آخرون) نحجم عن المشاركة في “المجلس الوطني من أجل أن يصبح أكمل تمثيلا للشعب السوري ” ( كذا !) عندما كنا نلتقي بأعضائه في باريس في الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2011 قائلين “إنه ولد ميتا ، وما هكذا تكون قيادة الثورات” والأمر نفسه ، وعلى شكل أسوأ ، تكرر في الائتلاف ، الذي سمعتهم منذ أيام يناقشون سبب فشلهما ويجمعون على أن انشقاق هيئة التنسيق وعدم قبولها المشاركة بهما كان الضربة القاضية للمعارضة السورية وانشقاقها إلى معارضة داخلية ومعارضة خارجية ، وصدق المثل القائل ( جحا أكبر من أبيه ) فمن الذي انشق عن من ؟
بالتأكيد ، ليس هذا هو النقد الذي يريده فقيدنا الكبير ميشيل كيلو !
وأعتذر من كل من يعتبر في المكتوب المطول أعلاه “استغلالا للمناسبة ” وخروجا على تقاليد التعزية !
ولكني أعتقد أن أكثر ما يسر ميشيل هو الخروج عن تقاليد العزاء إذا كان من أجل الانشغال في الشأن العام بما هو مفيد ، طبقا لوصيته الثمينة !
الرحمة والسلام لفقيدنا الكبير ميشيل كيلو ، الحاضر الغائب دوما ، وأحر العزاء لرفيقة عمره الغالية أم أيهم وابنتهما وأخويها الكرام ، ولجميع محبيه .
عارف دليلة