د . محمد حبش – الناس نيوز ::
نعيش اليوم أجواء عيد الميلاد المجيد، حيث يحتفل العالم بعيد ميلاد السيد المسيح، ويتبادل الناس التهنئة والتراحم والتواصل، وهي مناسبة نقدّم فيها التهنئة للمسيحيين في هذه الأيام الأليمة والأثيمة، حيث تزدهر الكراهية والظلم، ويعود الحب خاسئاً وهو حسير.
وبعيداً عن المسخرة المشهورة هل يجوز تهنئة الناس بأعيادهم، وهو سؤال لا يوجد أزنخ منه في الدنيا، وقد بات سمةَ فاضي الأشغال كل نهاية عام، وعادةً ما يجد هؤلاء مَنْ يُثير فيهم حفيظة الكراهية، ويحرّم على الناس أن يهنئ بعضها بعضاً، وهو موقف في غاية السخف، ولا معنى على الإطلاق لطرحه في حوار أو جدل، بل ينطبق على هؤلاء الموتورين من التهنئة والمحبة: وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً.
والإيمان الإسلامي بالمسيح قوي جداً، فهو أكثر من نبي وأكثر من رسول، ويعتقد كل مسلم أن المسيح رسول الله ونبي الله وروح الله وكلمة الله، وهذه أوصاف لم يحظَ بها أحد من الأنبياء على عظيم منازلهم وعليّ أقدارهم، ويعتقد معظم المسلمين أيضاً أن السيد المسيح لا زال حياً، وأنه سيأتي إلى الأرض في وقت مناسب؛ لتمتلئ الأرض بالخلاص والنعمة، ويسود العدل والسلام، ويرعى الحمل مع الذئب، والحمام مع الأفاعي، ويعود الإنسان أخاً للإنسان.
وفي زيادة لافتة في الإيمان، المسلم يعتقد أيضاً أن المسيح تكلّم في المهد، وهي معجزة لا وجود لها في الأناجيل الأربعة، ويعتقد المسلم أيضاً أن المسيح قد رُفع عن خشبة الصلب، وأكرمه الله بالنجاة ورفعه إلى السماء في مشهد جلال وتكريم، فيما يرى الإيمان المسيحي أن المسيح مات على الصليب.
ومن الجانب المسيحي، فمن المنطقي القول إنه لا يوجد في النصّ الديني المسيحي ما يشير إلى الرسول الكريم، حيث تقدّم الإنجيل على القرآن بستمائة عام، ولكن زخم الإيمان الإسلامي بالمسيح وطهارة أمّه العذراء والروح القدس والحواريين المقدّسين. “ولَتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون”، وكذلك سورة آل عمران المخصّصة لأسرة المسيح، وهي من أكبر سور القرآن، وسورة مريم المخصّصة للسيدة العذراء، كل ذلك فرض على اللاهوت المسيحي أن يتحرك للاعتراف بالإسلام، وبالفعل، فقد أدى ذلك التوجّه ثمره، وانعقد مجمع مسكوني عالمي كبير عام 1965، وقد صدرت عنه الوثيقة التاريخية المسماة “نوسترا آتيتا”، وهي الوثيقة التي تنصّ بوضوح باسم كل آباء الكنيسة الكبار؛ أن الإيمان الإسلامي إيمان عظيم وأن الكنيسة تقدّره وتحتفي به فهو إيمان إبراهيمي، وإن المسلمين، وإن كانوا لا يقولون بألوهية المسيح، ولكنهم يقولون بنبوته، ولا يتردّد في ذلك مسلم.
ولكن مع كل هذه الحقائق، لماذا لم يُؤتِ هذا الإيمان أثره في بناء صف متّحد ضدّ الظلم والقهر؟
من المؤسف، أن هذا التحالف الإيماني ظهر بوضوح في مواجهة الانحرافات الأخلاقية من الشذوذ والإجهاض، وسفاح المحارم، ومحاربة الإدمان، والقمار، وغيرها… ولكنه لم يخطُ الخطوة الضرورية الأساسية نحو التلاحم في مواجهة الظلم والعدوان، وكانت محنة غزة أشدّ الأيام حزناً وبؤساً، وقد رفض الجانب المسيحي في الدول الأساسية في العالم الوقوف مع إسرائيل بشكل قميء دنيء لا يعكس أي قيمة أخلاقية أو ضمائرية.
زعماء الغرب الذين توافدوا على تل أبيب في تشرين الأسود، لم يقرؤوا سطراً من روح المسيح الآمرة بالتسامح والمحبة “أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، صلّوا لأجل الذين يبغضونكم…”، لم يقرؤوا شيئاً من فصل؛ “إذا ضربك أخوك على خدّك الأيمن فأدر له خدّك الأيسر إذا طلب منك رداءك فأعطه إزارك..”، بل وقفوا صفاً واحداً يرتلون مع نتنياهو نصّ أشعيا من العهد القديم وهو النص الذي كان يأمر بذبح كل فلسطيني وقتل النساء والأطفال، وانتهى بعبارة: “ولولي يا فلسطين فقد ذبح كل أبنائك”، وهو كلام لا يليق ببلطجي منسوب لنبي، وهو أحرى أن يكون من كلام القتلة وسفّاكي الدماء، ولست أدري ما حاجة البشرية لأنبياء يقومون بتدمير المدن، وقتل النساء والأطفال والولولة على فلسطين!!.
نعم، لقد أفسد اللاهوت المسيحي هذه الجسور الخضراء من الودّ والمحبة، حتى في الجانب الإسلامي فقد تمّ إفساد هذه الملامح الربانية من رسالة المسيح، وبدلاً من انتظاره ليساعدنا في الخلاص من الظلم والقهر والحرب، أورد الرواة أحاديث محيرة!! مقتضاها أن الرسالة التي سيأتي بها المسيح في آخر الزمان، هي أنه سيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، وهي مهمة لا تحمل ذرةً من تسامح ولا رحمة ولا نعمة، وهي إيذان بولادة حروب جديدة، حين يأتي المسيح الذي سيدمّر ما يؤمن به المسيحيون وسيفرض عليهم التحشد لقتاله هو، حيث تبدو رسالته بلا معنى، وأسوأ من ذلك أن تكون مهمته قتل الخنازير، ولا أدري ما معنى أن ينزل نبي من السماء بهيبة الله وجلاله، وتكون مهمته أن يقتل خنزيراً أو كلباً.
على كل حال، فإنني أتمنى أن يعلم المسيحي أن اللاهوت المسيحي في أعلى صوره قد اعترف بوضوح بالرسول الكريم، والإسلام كرسالة كريمة ونبيلة، وأن يعلم المسلم والمسيحي أن الفجور الذي يصرّح به اليوم المعمدانيون المتعصّبون؛ أن الربّ يأمرهم أن يكونوا مع شعب إسرائيل لأنهم أبناء الربّ! في ترداد ببغائي للمقولة الفاجرة “أبناء الست وأبناء الجارية”، وعلى فكرة فالمعمدانيون عموماً مؤمنون بذلك إلى الغاية، فهم أبناء السيدة سارة، ونحن أبناء الجارية هاجر!
هي ملاحظات سريعة، ولا أريد أن أسترسل أكثر، ولكنني حزينٌ، أن أعترف أن الجسور التي وصلها القرآن والإنجيل بين الأمتين الأعظم، قد تمّ تدميرها بالكامل عن طريق التعصّب والجهل، وللأسف، فهو ليس جهلاً ناشئاً عن غياب الكتاب والقلم، وهو ليس جهل الرعاة والسبّاكين، بل هو جهل المقيمين في البيت الأبيص، وقصر فرساي، و وستسمستر، وغيرها من قصور العالم المتحضر المزخرفة بالذهب والخاوية من الروح.
عيد ميلاد مجيد لأمة السيد المسيح، نحن شركاؤكم أيها المؤمنون النبلاء، فقد اختطفوا منّا أيضاً ديننا، وأعادوا حرب الأديان، ورصفوها متقابلة تتبادل أحقاداً لا تنتهي في التاريخ، وتمّ عن عمدٍ تغييب رسالة المسيح في السلام والمحبة.
عليك نور الله أيها الفادي، فأنت في عيون المؤمنين نعمة ورحمة، ولعل كلماتك البيضاء التي كان غاندي يقرؤها كل يوم، ويتعلّم منها حقوق الإنسان. لعل هذه الكلمات تعيد جمع شتاتنا وقلوبنا، بعيداً عن أطماع السياسية وشروطها التي أفسدت بشكل نهائي كل كلام في إخاء الأديان وكرامة الإنسان.