د . أمير سعادة – الناس نيوز ::
قدم رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري ترشيحه للانتخابات النيابية المقبلة، وفي 14 مارس/آذار 2022، أعلن مرشحي حركة أمل، ومن ضمنهم سياسيين متهمين بالشروع في القتل في جريمة مرفأ بيروت، وهما علي حسن خليل وغازي زعيتر.
لا غرابة في هذا الخبر، لأن القضاء اللبناني لم ينجح حتى الآن في اعتقال أي من المتهمين الكبار قي قضية المرفأ، وهم موزعين على كل الطوائف والأحزاب. القائمة تطول، وفيها السني نهاد مشنوق، ابن تبار المستقبل، والمسيحي يوسف فنيانوس، المحسوب على رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، ورئيس الوزراء السابق حسان دياب، حليف الرئيس ميشيل عون التيار الوطني الحر.
الغريب هو إصرار نبيه بري على البقاء في منصبه رئيساً لمجلس النواب، الذي اعتلاه بحزم سنة 1992 ولا يزال يمارس ” احتلاله ” لهذا المنصب حتى اليوم.
ثلاثون سنة من السلطة لم تُرضي غرور نبيه بري، ولم تشبع شهيته السياسية. يقترب بري اليوم من عامه الرابع والثمانين، في ظلّ تزايد الكلام عن إصابته بعدة أمراض، وتراجع ملحوظ في صحته.
بدأ حياته محامياً وقيادياً شاباً في حركة المحرومين مع الإمام موسى الصدر، ويُقال (همساً) أنه لعب دوراً محورياً في اختفائه القسري في ليبيا سنة 1978. الصدر كان رجلاً عقلانياً وحكيماً، ولو بقي حيّاً لما لمع نجم بري في الأوساط الشيعية، ولربما ما ظهر تنظيم حزب الله من رحم حركة أمل سنة 1982.
استغل نبيه بري قضية اختفاء الإمام الصدر إلى أبعد حد، تحديداً بعد وصول الإمام الخميني إلى الحكم سنة 1979، وظلّ مصراً على أنه موجود في ليبيا حتى بعد سقوط نظام معمر القذافي سنة 2011.
لم تظهر أي آثار للإمام الغائب، لكن الرئيس بري أصر على موقفه وروايته عما حدث في طرابلس الغرب سنة 1978، رافعاً شعار البحث عن الصدر، والانتقام له، في كل مناسبة سياسية وقومية.
نكتة ياسر عرفات .
وها هو اليوم يخوض انتخابات يعرف الجميع نتيجتها سلفاً، دون أي منافسة حقيقية. صيت الثروة في لبنان مرتبط بآل الحريري والرئيس نجيب ميقاتي، ولكن العارفين بحقائق الأمور يقولون إن الرئيس بري أغنى منهم مجتمعين، فهو مسيطر على شبكات تهريب المجوهرات من سيراليون، والمخدرات من سهل البقاع إلى أقاصي المعمورة.
ذات العارفين بالرئيس بري منذ سنوات طويلة يذكرون كيف كان “الأستاذ” يضحك من أعماقه كلما سمع بقصة شهيرة، يرويها أهالي بيروت عن الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، عندا جاؤوا إليه متوسلين خروجه من مدينتهم لوقف العدوان الإسرائيلي قبل أربعة عقود.
يُقال إن حاجب عرفات (حليف بري في حينها) دخل عليه وقال: “أبو عمّار، أهالي بيروت على الباب، يريدون توديعك”. فرد عرفات مازحاً: “الله، هم أهالي بيروت رايحين فين”؟ أي أنه باقي في مكانه، وعلى من لا يعجبه هذا الأمر أن يرحل.
المضحك أن هذه النكتة القديمة التي طالما ضحك عليها نبيه بري في شبابه، تنطبق عليه اليوم تماماً كما كانت تنطبق على أبي عمار، فهو باقٍ في مكانه، وعلى من لا يعجبه هذا الأمر أن يرحل.
الثابت الوحيد .
تمسك الرئيس بري بكرسيه لا يختلف عن تمسك عرفات بمنصبه، حتى اللحظة الأخيرة من حياته، على الرغم من محاصرته في مكتبه برام الله وتقدمه بالسن وتراجع حاد في قدراته الذهنية والجسدية.
وهو ينطبق على كل الزعماء العرب العجائز ومن دون استثناء، من الحبيب بورقيبة وعبد العزيز بوتفليقة، مروراً بحسني مبارك وعمر البشير وغيرهم.
بعضهم بدأ حياته مناضلاً ثورياً مثل نبيه بري، قبل أن تسرقه أضواء السلطة ويغرق في جمع الأموال. الفارق الوحيد بينهم وبين بري هو أن الأخير رئيس سلطة تشريعية، يُفترض أن تكون منتخبة بشكل ديمقراطي، في بلد يعتبر نظامه ديمقراطياً تعددياً.
الجميع يطرح تساؤلات اليوم، عن كيفية الإطاحة بالرئيس ميشيل عون ونزع سلاح حزب الله، دون الدخول في جوهر المشكلة اللبنانية، وهي تختصر بشخص نبيه بري، الثابت الوحيد في المشهد اللبناني، العصي على كل التغيرات وكل الانقلابات الاقتصادية والسياسية والأمنية.
كان بري أحد مهندسي اتفاق الطائف، وهو من صنيعة مرحلة الوصاية السورية في لبنان. مع ذلك، حافظ الرجل على علاقة ممتازة مع جميع الأطراف، مع إيران بعد الثورة الإسلامية، مع سورية بعد وفاة حافظ الأسد، ومع السعودية في كل عهودها. وهو إضافة لكل ذلك مقرب من فرنسا ومن الولايات المتحدة الأمريكية.
العلاقة مع تل أبيب وواشنطن .
ولعل أهم منجزات بري الأخيرة، التي أطالت بالرضا الدولي عليه، كانت المفاوضات بين لبنان وإسرائيل، التي أطلقت تحت إشراف الأمم المتحدة قبل عامين. جاءت هذه المفاوضات بطلب مباشر من بري، وكانت تحت إشرافه المباشر، والهدف منها، كما هو معلوم، هو ترسيم الحدود البحرية للسماح للبنان بالتنقيب عن الغاز في مياهه الإقليمية.
نجح بري بإقناع حزب الله بقبول هذه المفاوضات، وروج لها على أنها فرصة ذهبية للبنان للخروج من أزمته الاقتصادية.
وقد وثق به المفاوض الإسرائيلي والمراقب الأميركي معاً، وبناء على ذلك انطلقت المفاوضات شكل جدي ونية سليمة في أكتوبر/تشرين الأول 2020، بالتزامن مع السلام الإسرائيلي الإماراتي، الذي رحب به بري ولم يعارضه.
ولكن تدخلاً من رئيس الجمهورية حرف هذا المسار، عندما أصر ميشيل عون على تعديل الحدود المتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل، وإدخال عناصر مدنية على الوفد المفاوض، وفي مقدمتهم صهره جبران باسيل.
الهدف من هذه المناورة كان لرفع من شأن عون في المحافل الدولية، بعد كل التهميش الذي تعرض له بسبب جبران باسيل، وإظهاره أمام الإدارة الأمريكية على أنه رجل دولة قوي ونافذ ومعتدل، قادر على تحقيق تقدم في مسار مسدود، كان لها اليد العليا في انسداده.
ومن هنا كان التنافس الحقيقية بين عون وبري: على رضا الأميركيين، وليس على رضا حزب الله.
الخلاف المبطن بين بري ونصر الله .
العلاقة بين بري وحزب الله تبقى متينة من حيث الشكل، ولكن هناك خلافات جسيمة تطفو على السطح اليوم، بأشكال مختلفة. فتارة نرى مناوشات بين الحليفين الشيعيين، على تعليق لافتة هنا ومهرجان خطابي هناك، تصل إلى العراق بالسلاح الخفيف.
بري ونصر الله لم يكونوا متفقين على مجيء ميشيل عون إلى رئاسة الجمهورية سنة 2016، ولا على استقالة الرئيس سعد الحريري عام 2020 أو على تعيين حسان دياب في رئاسة الحكومة، خلفاً له.
وهما اليوم على خلاف كبير في قضية مفاوضات ترسيم الحدود، التي يريد بري إنجازها بأي شكل والانتقال بعدها إلى صفقة أشبه بالصفقة الإماراتية.
أنصار حركة أمل يشكون بشكل مستمر من هيمنة حزب الله على الشارع الشيعي، وفرض نظام ديني صارم على الأحياء والبلدات القرى.
إضافة إلى الكثير من العتب على تفرد حزب الله بضاحية بيروت الجنوبية، وحصر نفوذ حركة أمل ببعض قرى الجنوب وإقليم الخروب.
بري نفسه لا علاقة له بالإسلام السياسي، فهو قومي عربي المنشأ، علماني الهوى، لا يؤمن بولاية الفقيه. لا يخالف بري الولي الفقيه علناً، ولكنه وفي مجالسه الخاصة ينتقد نصر الله لربط مصير شيعة لبنان بعلي خامنئي وبنظام الخميني.
وهو لا ينسى أن نصر الله انشق ذات يوم عن حركة أمل، وأنه طرد من صفوفها من قبل بري ذات نفسه.
نصر الله يخاطبه اليوم بعبارة “الأخ الكبير”، نظراً لتقارب المصالح السياسية بينهما، ولكنها تبقى علاقة سياسية بامتياز، خالية من أي مشاعر ود وبعيدة كل البعد عن الأخوية.
وفي لحظة مستقبلية، قد ينفرط هذا العقد بينهما، لعدم حاجة كل منهما إلى الأخر ولتباعد المسارات بينهم، داخلياً وإقليمياً.