“وكما تنظر على حواف بركة
إلى الضفادع رافعة خطمها في الفضاء
ومخفية قوائمها وسائر جسمها
هكذا وقف الآثمون من كل جانب
لكن ما إن يقترب Barbariccia (شيطان: ذو اللحية الشائكة)
حتى يعاودوا الغطس تحت الغليان”
دانتي (Dante)- الكوميديا الإلهية
لا أحسب أن أوفيد (Ovidius) بخياله الثّر بقادر البتّة على كبح شعور جارف برمي القلم بعيداً، مذهولاً أمام جموع لاهثة وراء خبزها المرّ، المستلبة إلى أقصى حدود الاستلاب، كيف تغدو على نحو خاطف ضفادع فرحة تمجّد الطغيان، وتحرق له البخور مفتتنة به أيّما افتتان. هل يمكن تصوّر أّنّ القدماء في أثينا وروما قد مقتوا الطغيان وأعلوا من قيمة الحرية والفضيلة الجمهورية، بينما نجد الآن وهنا، شعوباً مسترقّة ترزح تحت طغيان مقيت، يتظاهر برفع راية الجمهورية ولكنه يدوس الكرامة الإنسانية ويزدريها؟ كيف أمكن لأفعى الطغيان أن تتلبّس بالرداء الجمهوري لتبتلع مجتمعاً برمته، وتطفئ صوت الله في القلوب، وتحيل الإنسان من غاية الكون الأسمى إلى مجرد أداة تافهة تخدم مقاصده الدنيئة؟
سأبحث هنا باختصار في أصل التقليد الجمهوري، وأتتبع مساره حديثاً لأوضح كيف تم تزييف الفكرة الجمهورية، ثم أحاول رسم ملامح الطريق نحو بناء الجمهورية.
التقليد الجمهوري في أثينا وروما
لأثينا وحدها يرجع الفضل في تدشين حركة مساواتية عظيمة، نقلت المجتمع المغلق القائم على القبلية والطبقية والسحر إلى مجتمع مفتوح يرفع من قيمة الفردية والعقلانية، ويلغي الامتيازات الطبيعية. هذه الحركة سيتنكر لها فيلسوف أثينا الكبير أفلاطون (Plato)، الذي نظر في جمهوريته للحكم والامتياز الطبقيين وللعدالة باعتبارها خاصية للدولة لا للأفراد متهكماً على الديمقراطية الأثينية، ليقوّل أستاذه سقراط (Socrates)، صاحب العقل الحرّ والفرداني العظيم، ما يريد أن يروّج له أفلاطون ببرنامجه الاستبدادي الخلاب نثرياً والخطر مستقبلياً، بحيث يمكن أن نضع إكليل الغار على رأسه(أفلاطون) كونه منظر الشّمولية الأول.
رفض صولون (Solon) مشرّع ديمقراطية أثينا العظيم، الذي قاد ثورة اقتصادية مهمة وحرر الناس من عبودية الديون، وألغى عقود ارتهان الأراضي للمدينين، أن يقوم بإجراءات راديكالية محاباة للشعب من خلال مصادرة الأراضي من الأغنياء وتوزيعها عل الفلاحين، وبذلك حرم نفسه من أن يصبح طاغية. لكن بيزيستراتوس (Peisistratus) قام بتوزيع أراضي الأرستقراطيين لصالح الفقراء، ما مهد للطغيان Tyranny في أثينا 510 B.C. وأتى رجل الدولة المصلح كلييسثنيس ((Cleisthenes ليضع أسس الديمقراطية الأثينية بالفعل، متخذاً من أثينا المدينة-الدولة(City –State) نموذجاً، باعتبارها أرقى شكل لتنظيم الجماعة السياسية. الأثينيون الأحرار وبعد سحقهم الخطر الفارسي في معارك ماراثون B.C490، سلاميسB.C 80 سينعمون بالديمقراطية، التي ستبلغ أوجها زمن بيركليس (Perclis) وتصبح أثينا بالفعل مدرسة العالم اليوناني كله.
روما
شهدت روما حكماً جمهورياً بعد طرد ملوك تاركوين(Tarquin) من قبل بروتوسBrutus 509 B.C، حيث وُجد مجلس الشيوخ الذي بيده سلطة شن الحروب وإبرام المعاهدات، ومنصب القناصل (السلطة التنفيذية)، ومنصب التريبيون (محامي الشعب). كما أبدع الرومان منصب الديكتاتور بسبب وجود جيران روما الخطرين، هذا المنصب هو إجراء دستوري يتمثل بإضفاء سلطات واسعة على شخص محدد ولفترة محددة.
كان العداء المستحكم بين مجلسي الشيوخ والشعب في روما هو الذي أبقى روما جمهورية تنعم بالحرية لفترة طويلة. لكن شعب روما الطامح للمجد، بسنّه القوانين الزراعية، تمثلت بوضع حد لإثراء النبلاء، وتحديد سقف ملكية الأرض، وتقسيم الغنائم من الأراضي على الشعب، أشعل الحرب الأهلية مسبّباً خراب روما، لتبعث هذه العداوة من جديد أيام يوليوس قيصر، الذي كان في صف الشعب ليصبح أول طاغية في عصر روما، التي ستودع الحكم الجمهوري منتقلة إلى حكم الأباطرة.
كان الرومان أحراراً نتيجة خضوعهم للقوانين وحدها، فهذه الجمهورية لم تسمح لمواطنيها، وإن كانوا من طراز شيبيو (Scipio) الأكبر الذي قهر هانيبال، أن يتجاوزوا قدسية القوانين التي ضمن احترامها حرية روما. حقاً لا شيء كان يضطرم في قلوب الرومان سوى عشق الحرية وكانت الفضيلة المدنية، المتمثلة بالاستعداد والقدرة على خدمة الصالح العام، هي أساس وروح الحكم الجمهوري.
إيطاليا مرة أخرى
في أواخر القرون الوسطى شهدت مدن فلورنسا والبندقية حكماً جمهورياً مؤقتاً، وظهر ميكافيلي (Machiavelli) ذو النزعة الجمهورية الخالصة، والذي نظّر للمدرسة الجمهورية الحديثة. ستبعث النهضة في إيطاليا وتعبر إلى ما وراء الألب، وصولاً لولادة عصر الأنوار الذي كان ظاهرة أوروبية بالأساس، لكن كان مسيطراً عليها من قبل الكتاب الفرنسيين مثل روسو (Rousseau)، ديدرو (Diderot)، مونتسكيو (Montesquieu)، الذين يشار إليهم عادة كفلاسفة (مصطلح شرفي). كتاب التنوير لن يستخدموا كلمة وطن إلا كمرادف للجمهورية الحرّة. على الصعيد السياسي ستظهر الولايات المتحدة الأمريكية للوجود بعد حرب الاستقلال، باعتبارها من أوائل وكبريات جمهوريات العصر الحديث. وأيضا ستؤسس الثورة الفرنسية الجمهورية اليعقوبية الأولى. في هذه الفترة كانت بريطانيا قد غدت ملكية دستورية؛ أي تحدّها القوانين منذ أيام الثورة الجليلة وغدا التفريق بين الحكومات الجمهورية والملكية طفيفاً.
تزييف الفكر الجمهوري
الخطر الأكبر على الفكر الجمهوري سيأتي من الماركسية ومن منظرها الكبير ماركس (Marx)، فبالرغم من سموه الأخلاقي وتحليله العميق للنظام الرأسمالي المنفلت واللا إنساني (عمالة أطفال، ساعات عمل طويلة، بيئة عمل قاسية)، إلا أن العقم التاريخاني للنظرية وتبنيها للعنف الاجتماعي (ديكتاتورية البروليتاريا)، التي ستدمر الحرية الشخصية مستقبلاً، أحالت الفردوس الذي بشّربه إلى جحيم أرضي وأي جحيم! فقط البلدان التي اتبعت الهندسة الاجتماعية المتدرجة، والتي استفادت من تراث الماركسية، هي التي ستنجح بضبط النظام الرأسمالي وتحقيق المزيد من المساواة الاقتصادية والسياسية لمواطنيها. أما البلدان التي استلهمت النظريات الماركسية وطبقتها كطريق مستقل في الجمهوريات السوفيتية، وبالرغم من إنجازاتها في البدايات، إلا أن التكلفة البشرية ستكون باهظة وسيتم تدمير القيم الإنسانية وإلغاء حرية الفرد نهائياً، لتصل الشيوعية طورها الشّمولي، أسوة بالفاشية في ألمانيا وإيطاليا (وإن بدرجة أقل في ايطاليا). هذه الأنظمة، التي لا تتقاطع مع الجمهورية إلا من جهة الاسم البرّاق، ستكون أشبه بكارثة حلت على الجنس البشري بما قامت به من حملات تطهير ومعسكرات اعتقال وإبادة جماعية.
استبداد شرقي جديد
هنا في الشرق العربي، وعلى هدى الاستبداد الشرقي ذي التقاليد الراسخة، سارت العسكرتاريا المدعومة من أحزاب ذات صبغة اشتراكية ممسوخة، مستغلةً فشل الحكم البرلماني في حل قضايا الساعة الاجتماعية، وأيضاً كردة فعل على تحديات إقليمية خطرة، فأقامت حكماً جمهورياً صورياً على أنقاض الملكية (مصر، العراق) أو جمهورية سابقة (سوريا)، لكنها، في الواقع، ستكون أنظمة طغيانية فضيلتها الوحيدة هي نشر الخوف! وأينما نظرت لن تجد سوى الطاعة العمياء التي تسم تراتبية العبيد. نُظُم الاستبداد هذه ستقطع وعلى طول الخط مع كل القيم الجمهورية وستغيّب الحرية الفردية مطلقاً، وسيتم تحطيم القيم الأسرية والاجتماعية من صدق ونزاهة وشرف، والتي ما إن تظهر في المجال العام حتى تتحول إلى نقائضها من فساد واستباحة للمال العام وهوان منفّر، فلا مكان للفرد الحرّ المعتدل، بل فقط لكائنٍ متغطرس على أبناء جلدته، عبد أمام أسياده.
نحو بناء الجمهورية
هل يليق بشعب يدّعي عراقة مجد غابر، كالشعب السّوري، أن يدفن رأسه في الرمال كالنعام، أم عليه أن يحرّر عقله من كل وصاية رافضا كل استبداد أرضي أو سماوي، مستلهماً شعار عصر التنوير الذي صاغه كانط (Kant) قبل أكثر من مائتي عام Sapere Aude (تجرّأ أن تفكر)، فبالرغم من الانهيار القيمي الحاصل لازالت هناك قلوب تنبض بالحرية والفضيلة الجمهورية، متحمّسة لبناء جمهورية حرة متمثلة بدولة القانون، والتي ستضمن الحرية لجميع مواطنيها، فلا حرية في وطن يكون ولو فرد واحد فيه غير آمن على حياته وحريته وممتلكاته، بل يجب أن تكون الحرية كالرّب واحدة للجميع. في ظل هذه الجمهورية الحرة سيعادي أبناؤها الإرهاب والتفتيت بقدر مقتهم للاستبداد. وستتجلى الوطنية الحقّة هنا لا باعتبارها شعوراً طبيعياً زائفاً، بل كعاطفة مصطنعة تزدهر في ظل القوانين. عندها فقط نكون جديرين بالفرح والحب كوننا أحراراً، وتصبح الحياة جديرة بأن تُعاش، وسيهرع الشباب في الوطن والشتات لبناء جمهورية يؤمنون بأنها وطنهم بالفعل، ملقين بجوازات السفر/الهروب الكئيبة إلى الجحيم على شاكلة كاتب هذه السطور.
سامر عيسى