د. حمزة القطرنجي – الناس نيوز ::
اللوحة الرئيسية بريشة فنان الكاريكاتير السوري ياسين خليل .
مع سقوط نظام بشار الأسد، باتت سوريا أمام تحدٍ كبير لإعادة بناء المجتمع وتحقيق العدالة والمصالحة الوطنية.
تُعد تجربة رواندا بعد الإبادة الجماعية عام 1994 من أبرز الأمثلة على العدالة الانتقالية التي يمكن الاستفادة منها لتطبيق نظام مماثل في سوريا.
في رواندا، أدت الإبادة الجماعية إلى مقتل أكثر من 800 إلى مليون ، معظمهم من أقلية التوتسي، مما خلّف مجتمعًا يعاني من الانقسام العميق والجروح النفسية والاجتماعية.
للتعامل مع هذه الكارثة، تبنت رواندا نظامًا قضائيًا مبتكرًا يجمع بين العدالة والمصالحة، حيث تم استخدام محاكم الغاكاكا التقليدية إلى جانب المحاكم الوطنية والدولية لتحقيق المحاسبة وتعزيز الثقة بين السكان.
نجحت محاكم الغاكاكا في معالجة مئات الآلاف من القضايا التي كان من المستحيل التعامل معها عبر النظام القضائي التقليدي.
هذه المحاكم المحلية وفرت فرصة للمجتمعات المحلية للتعبير عن الحقائق وكشف الجرائم، مما ساعد على تعزيز المصالحة وإعادة بناء النسيج الاجتماعي.
ورغم التحديات التي واجهتها، مثل محدودية الموارد والانتقادات الدولية حول المعايير القانونية، إلا أن تجربة رواندا أثبتت فعالية نموذج العدالة الانتقالية في تحقيق السلام والاستقرار .
في السياق السوري، يمكن تطبيق نسخة معدلة من هذا النظام لمعالجة الجرائم التي ارتُكبت خلال سنوات الحرب الطويلة.
يتضمن النموذج السوري المقترح تقسيم المتهمين إلى فئات وفقًا لمستوى تورطهم في الجرائم، مع إنشاء منظومة قضائية متعددة المستويات.
الفئة الأولى تشمل القادة والمسؤولين الرئيسيين عن الجرائم الكبرى، مثل القادة السياسيين والعسكريين في النظام السابق والمسؤولين عن استخدام الأسلحة الكيماوية والإعدامات الجماعية و قيادات المخابرات والافرع الامنية و مشرفي المرافق العسكرية و المدنية التي ارتكبت فيها الجرائم.
هؤلاء سيتم محاكمتهم أمام محكمة دولية مختصة لضمان النزاهة والالتزام بالمعايير الدولية.
أما الفئة الثانية فتضم مرتكبي جرائم القتل والتعذيب، بما في ذلك مدراء السجون العسكرية وسجون المخابرات، والضباط وصف الضباط والمسؤولين عن إدارة هذه المؤسسات، وكذلك السجانون وكوادر السجون وشبيحة قوات الدفاع الوطني و من في حكم قيادات الشبيحة.
تُضاف إلى هذه الفئة واجهات الأعمال والمتنفذين الانتهازيين المرتزقة و كل القيادات التي وفرت الدعم لأركان النظام اقتصاديا و اجتماعيا.
هذه الفئة ستُحال إلى محكمة جرائم الحرب السورية، وهي محكمة متخصصة تُنشأ ضمن وزارة العدل السورية الجديدة. تعمل هذه المحكمة بالتعاون مع خبراء دوليين لضمان الشفافية والعدالة، مع عقد جلسات علنية تُتيح للمجتمع متابعة سير العدالة.
الفئة الثالثة تشمل مرتكبي الجرائم الأقل خطورة، مثل النهب أو تقديم دعم غير مباشر للجرائم الكبرى، وأولئك الذين أُجبروا على المشاركة في الجرائم تحت التهديد.
ستُحال قضاياهم إلى محاكم العدالة الشعبية المشتركة، وهي محاكم محلية تعتمد على هيئات محلفين من وجهاء المناطق والقيادات المجتمعية والدينية.
تهدف هذه المحاكم إلى تحقيق العدالة التصالحية وتعزيز المصالحة، مع التركيز على كشف الحقيقة كطريقة لتخفيف العقوبات وتقديم تعويضات للضحايا بدلاً من العقوبات التقليدية.
أما الفئة الرابعة، فتشمل الأفراد الذين قدموا دعماً إدارياً أو لوجستياً دون أن يكون لهم دور مباشر في الجرائم.
هؤلاء يمكن التعامل معهم من خلال آليات المصالحة المجتمعية، التي تتضمن برامج لإعادة التأهيل والمشاركة في إعادة الإعمار، مع إمكانية منح العفو الجزئي بناءً على الاعتراف والمساهمة في جهود المصالحة ، بعد الإقرار بالذنب .
إن تطبيق هذا النظام في سوريا يهدف إلى تحقيق العدالة للضحايا، وإعادة بناء الثقة بين الموطنين ، ومنع الانتقام الجماعي الذي قد يعمّق الانقسامات.
كما أنه يعزز سيادة القانون من خلال إنشاء نظام قضائي مستقل وقوي يضمن عدم تكرار الجرائم.
ولكن كما هو الحال في رواندا، سيواجه النظام تحديات كبيرة، منها التوترات الطائفية والسياسية التي قد تعرقل تنفيذ العدالة، وضخامة عدد القضايا التي تتطلب موارد كبيرة وآليات فعّالة، بالإضافة إلى الضغوط الدولية التي قد تؤثر على سير المحاكمات.
رغم هذه التحديات، فإن نظام العدالة الانتقالية المقترح يمثل خطوة أساسية نحو بناء مستقبل مستقر ومزدهر لسوريا.
إذا ما تم تنفيذه بعناية وبمشاركة جميع الأطراف، يمكن أن يُسهم هذا النموذج في تحويل المجتمع السوري من حالة الانقسام والاضطراب إلى دولة قائمة على العدالة والمصالحة.
تجربة رواندا أثبتت أن العدالة ليست فقط محاسبة الجناة، بل هي أيضًا فرصة لإعادة بناء المجتمعات على أسس من الثقة والسلام.
سوريا تحتاج إلى هذه الفرصة اليوم أكثر من أي وقت مضى ، بعد رحيل نظام الطاغية الأسد .