أحمد عزيـز الحسين – الناس نيوز :
لا يتأتّى للكاتبِ صياغةُ مفهومٍ جديدٍ للكتابةِ إلا إذا استطاعَ امتلاكَ رؤيةٍ جديدة للعالمِ، غير أنّ هذه الرُّؤية لا ينهضُ بها إلا كاتبٌ حرٌّ لا يَدينُ بالولاءِ والخضوعِ لأيّةِ سلطةٍ قائمةٍ، سواءٌ أكانتْ سياسيّةً، أو اجتماعيّةً، أو دينيّةً.
وفي ظنّي أنَّ الكاتبَ المطأطِئَ، والتّابعَ، والخائف من مسؤوليّةِ الاشتباكِ معَ السُّلطةِ، لا يستطيعُ تأسيسَ لغةٍ جديدةٍ مشبعةٍ بالنّداوةِ والجِدّة؛ لأنّهُ بقبولهِ الانصياعَ لهيمنتها يُمسِي أسيراً لما هونمطيٌّ ومتسيِّدٌ، ولذلك لا يستطيعُ إبداعَ لغةٍ منفصلةٍ عمّا ألفه، في حينِ أنّ الكتابةَ الجديدةَ، بما تستبْطِنهُ منْ رؤيةٍ جديدةٍ للعالم، ترفضُ الانصياعَ لما هو مهيمِنٌ وثابتٌ، وتؤسِّسُ لفضاءٍ مجازيٍّ يُغايِر العالم القديم، وينبغي أنْ تُفضِيَ إلى تأسيسِ لغةٍ جديدةٍ تصلحُ لتشكيلِ العالمِ الجديدِ، وتستطيعُ صياغتَهُ بأجلى شكلٍ ممكنٍ؛ ولذلك فإنَّ الكاتبَ المخصيَّ، بحسبِ تعبيرِ الرّاحل حنّا مينة، لا يستطيعُ أنْ يكتبَ بلغةٍ جديدةٍ يبلورُ بها رؤيةً جديدةً للعالمِ؛ لأنّه يملكُ رؤيةً تؤيِّدُ ما هو نمطيٌّ ومهيمنٌ، وتسعى إلى تأييدهِ لا إلى نقضهِ؛ فأنّى لهُ أنْ يصوغَ (رؤيتَهُ المخصيّةَ) بلغةٍ جديدةٍ وهو يدورُ في فلكِ السُّلطةِ المهيمنةِ التي تسعى إلى تثبيتِ الواقع القائمِ ؟!
اللُّغةُ الجديدةُ، التي نحلمُ بها، لا يملكها إلّا كاتبٌ مبدعٌ امتلكَ رؤيةً مغايرةً للكون والعالم، رؤية تشفُّ عن مرونته، وبكورةِ وعيهِ، ونداوةِ حسِّهِ، وجِدّةِ مفاهيمهِ، وحين يتوافرُ مثلُ هذا الكاتبُ سنمسكُ باللغةِ التي ننشدها، ونستمتعُ بما تختزنهُ منِ مفهومٍ جديدٍ للحياةِ والكونِ .
وفي ظنّي أنّ الأديبَ الحقَّ هو الذي يمنعُ أفكارَهُ من الهيمنةِ على نصّهِ، ويشكِّلُ رؤيتَهُ الفنيّةَ بما يجعلُ هذه الأفكارَ تتناسجُ في بنيةِ النّصِّ، وتذوبُ في نسيجِ لغتِهِ، ولا يظهرُ منها إلا ما ترشحُ به بنيةُ النّصِّ كلُّها، وتسمحُ به آليّةُ التّشكيلِ المخاتِلةُ؛ فإنْ أطلّتِ الدّلالةُ منْ جملةٍ محدّدةٍ دونَ غيرها، أو منْ مقطعٍ معيَّنٍ دونَ آخر؛ فهذا يعني أنّ الأديبَ أوالشاعرَ لم يُحسِنِ التّخفّي خلفَ نصّهِ، وظهرَ حيثُ ينبغي أنْ يبقى كتوماً ورامزاً.
أمّا النّاقد الحصيف فينبغي أن يتحرّر من الافتراضات المُسبَقة والرُّؤية القبْليّة التي يحتكم إليها في مواجهته للنّصِّ الأدبيّ الجديد، لأنّ هذه الافتراضات تقيِّد رؤيته لهذا النّصّ، وتجعله أسيراً لها، وإنْ لم يفعل ذلك فسوف يقرأ النّصّ الذي يواجهه بعينَي الآخر لا بعينَيْه، ويُعايِنُ بُنيتَه من خلال منظور الآخَر لا من خلال منظوره، وإن لم يُحسِنِ الانفكاكَ من إسار الآخر فلن يستطيع الحكمَ على ما يراه بنفسه، وسيبقى أسيراً لأحكام نقديّة جاهزة لا تنبثق من خلال قراءته الذّاتية بل تتجلّى من خلال حضور (الآخَـر) في وعيه النّقديّ، وآليّة قراءته. ولسْتُ أقصد بالرُّؤية المُسبَقة (البنية النّقديّة) التي كوّنها النّاقد من خلال اطّلاعه على تاريخ النّقد الأدبيّ الحديث، بما فيه من مذاهب واتّجاهات وتحوُّلات ورؤى نقديّة مختلفة واجتهادات متباينة، فذلك أمرٌ مفروغ منه، وشرط لا بدَّ من توافره كي يستحقَّ النّاقد هذه الصِّفة، بل أقصد تبنّي منهج نقديٍّ بعينه، والاستعانة بأدواته، وتطبيق خطواته وإجراءاته في مواجهة النّصّ الذي يُوشِكُ النّاقد على تقييمه، من دون مراعاة طبيعته الفنيّة، أو تبيُّنِ الفارق بينه، وبين غيره، سواء أكان هذا المنهج بنيويّاً، أو سيميائيّاً، أو أسلوبيّاً، أوتفكيكيّاً، أو غير ذلك.
ولاشكَّ في أنَّ الانضواءَ تحت لواءِ الآخرِ، وتبنّي مفاهيمهِ ومصطلحاتهِ، وتطبيقَها بشكلٍ ميكانيكيٍّ على النصّ الأدبيِّ العربيِّ دونَ مراعاةِ خصوصيّتِهِ وطبيعتِهِ الفنيّةِ، شعراً كانَ أو نثراً، هو السِّمَةُ الجوهريّةُ لنقدنا العربيّ الحديثِ، وهو نَتاجٌ لضياعِ هُويّتِنا، واستلابِنا أمام الآخر، كما أنّهُ اعترافٌ منّا بالقصور عن مواجهة نصّنا العربيِّ الجديدِ بنصّ نقديٍّ يتناسب مع طبيعةِ هذا النصِّ، ويستكنه خصوصيّتَهُ، وليس هذا عيباً في الآخر، ولا تأكيداً لهيمنته علينا؛ فالنّظريّةُ النّقديّةُ المتحوّلة في العالم ليستْ نتاجاً لإبداعِ (الآخَـرِ) الغربيّ فقط بل هي نَتاجٌ لإبداعٍ إنسانيٍّ عالميٍّ شاركتْ في صياغتِهُ أممٌ وعقولٌ كثيرةٌ منها العربُ؛ إلا أنّ العرب انكفؤوا على أنفسهم، وعجزوا عن الإضافة، وقصّروا عن مواكبة ما يجري حولهم من تحوّلات نتيجةً لوقوعهم تحت هيمنة الاستعمارِ الخارجيّ، ثم رزوحهم تحت نيرِ أبناء جلدتهم الذين انبثقوا من تربة وطنهم، وساسوهم بالحديدِ والنّارِ، كما فعل المستعمرُ الخارجيُّ وأكثر.
وفي ظنّي، أيضاً، أنّ العرب حين استعاروا المناهجَ النقديةَ من الآخَـر أخفقوا في استثمارها كما ينبغي، وطبّقوها على نتاجهم الأدبيّ دون مراعاة خصوصيته الحضاريّة، وآليّة تعبيره عن الواقع الذي يُوهِم به، وقد أفضى استخدامُهم المغلوطُ لها إلى نتائجَ قسريّةٍ لاتتلاءم مع طبيعة هذا النّصّ الأدبيِّ، وآليّةِ تذوقهم له، ولا يزالون حتّى الآن يستعيرون هذه المناهجَ بشكل أخرق، ويطبّقوها على نصوصهم بشكلٍ أعمى، ويقرؤون مُنجزَهم النقديَّ التّراثيَّ في ضوئها، مؤكِّدين أنّ الجرجاني، وابن طباطبا، وحازم القرطاجني؛ قد سبقوا البنيويّين الفرنسيّين والشِّعريّين الرّوس والفرنسيّين والإنجليز في قراءة النّصّ الأدبيّ وتفكيك بنيته.
ولاشكّ في أنّ خضوعنا لمناهجِ غيرنا في قراءة النّصّ ليس عيباً يمكن أن نلوم الآخرين عليه، بل هو نتاجٌ لقصورٍ فينا، وعجزٌ عن الابتكار والإبداع، وهذا العجزُ ليس مقصوراً على النّقد وحده بل هو شاملٌ لمناحي حياتنا جميعاً، فنحن نعيش عالةً على العالم في كلّ شيء، ونفخر باستهلاك ما يُنتجِه، ونحمِّله المسؤوليّةَ عن بقائنا عاجزين عن الإبداع، وحين نرغب في الدِّفاع عن أنفسنا نلوذ بالماضي، ونحتمي بما أنجزه الأجداد، ونؤكِّد أنَّ الوفرة التي يرتع فيها العالمُ هي نتاجٌ لعبقريّتنا، وما قدّمناه للعالم، مع أنّ حاضرنا لايزال يبعث على الشّفقة واليأس، وحين نريد تسويغَ ما نعيشه من فقر فكريّ وماديّ في حاضرنا لا نبحث عن الأسباب في الظّروف الموضوعيّة التي نعيشها لنتلافاها ونتجاوزها بل نرى أنّ ذلك نتاج لـ(مؤامرة خارجيّة) تُحاك ضدَّنا في الخفاء، وهي السّببُ في بقائنا مراوحينَ في مكاننا لا نبرحه، وبذلك نلقي العبءَ على الآخر، ونُدِير ظهورنا إلى واقعنا، ونتجاوز محاسبة ذواتنا، ونبقى رازحين في البركةِ الآسنةِ نفسها لا نستطيع الخلاصَ منها حتّى الآن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب سوريّ