“كان فارس الخوري أحد عباقرة العرب في هذا العصر، عِلماً وفكراً وبياناً. إنه استاذي، واستفدت منه وقدرت فضله ومدحته، ولكن أخر مسلم في الأرض أقرب إليّ منه”. بهذه العبارات الصادمة وصف قاضي دمشق المرحوم الشيخ علي الطنطاوي رئيس وزراء سورية الأسبق فارس الخوري، المسيحي البروتيستانتي، وقد جاء هذا الكلام في الصفحة 103 من الجزء الثاني من مذكراته الصادرة في السعودية منتصف الثمانينيات. كثيرون يغفلون هذا الوصف، ومعظم الناس يفضلون تجاهله لأنه ينسف كل ما كان يُقال عن العيش المشترك والتأخي بين المسلمين والمسيحيين في عصر سورية الذهبي. وقد قال الطنطاوي هذا الكلام في إحدى خطبه وردت الصحف اليومية بهجوم لاذع يومها، وقالت إنه دعا إلى الطائفية وأنه كفر “بدين الوطنية”، سخر الطنطاوي منهم، وأشار إلى النشيد الوطني المعروف “بلاد العرب أوطاني” وشطره القائل: “فلا حدٌّ يباعدُنا ولا ديــــــــنٌ يفرّقنا”، ردّ الطنطاوي قائلاً: “ألا يفرقنا دين؟ أي أنهم يريدون أن نجعل الكافرين كالمسلمين وأن ندعو بدعوة الجاهلين”.
ردم الأساطير
كثرت القصص عن اعجاب المجتمع المسلم، بفقهائه وبسطائه، بعبريقة فارس الخوري. بعضها صحيح ولكن معظمها من نسج الخيال. فعندما تولى رئاسة الحكومة في مطلع الأربعينيات اعترض بعض النواب على هذا التكليف، لأنه سيعطي فارس الخوري مسؤولية إدارة الأوقاف الإسلامية في سورية، التابعة يومها لرئاسة مجلس الوزراء قبل أن يكون هناك وزارة مخصصة لها. قالوا إن الأوقاف الإسلامية لا يجب أن تكون بيد شخص غير مسلم، مستندين إلى رأي الطنطاوي، الذي أوضح بالقول: “الإسلام لا يجيز انتخاب غير مسلم نائباً في مجلس يشرع القوانين للمسلمين”.
تقول الأسطورة يومها أن نائب دمشق عبد الحميد الطباع، ممثل جمعية الغرّاء الإسلامية، اعترض وقال: “نحن، أعضاء الكتلة الإسلامية في المجلس، نؤمن فارس بك الخوري على أوقافنا، مثلما نؤمن أنفسنا”، وتضيف الأسطورة الشعبية (المتناقلة على صفحات التواصل الاجتماعي بكثرة هذه الأيام) أن فارس الخوري أصبح من بعدها وزيراً للأوقاف، وهو كلام فارغ. الصحيح أن الخوري تولى رئاسة الحكومة فعلاً، ولكنه وفور تكليفه قام بتعين رجل مسلم في إدارة الأوقاف، نيابة عن رئيس الحكومة، وهو المحامي سعيد الغزي (الذي أصبح رئيساً للحكومة في سنوات لاحقة).
وبعدها وعند عودة فارس الخوري من الأمم المتحدة في نهاية الأربعينيات، خرج الناس في استقباله، وعند ظهوره على سلّم الطائرة القادمة من الولايات المتحدة، طلب الخوري من ابنه إعطائه الطربوش، ولكن تبين أنه لم يكن معه. فظهر الخوري أمام الناس، سافر الرأس، وكان هذا عيباً في سورية يومها. فما كان من الشيخ بهجت البيطار، وهو من علماء دمشق، أن خلع عمامته وألبسها للخوري، قائلاً: “أنت أولى بها”.
الرواية المعاكسة للأسطورة
ولكن إذا عدنا إلى تفاصيل تلك المرحلة، نجد أن فارس الخوري لم يسلم من الانتقاد في زمنه وعصره، ولم يكن فعل الشيخ البيطار إلا الشذوذ عن القاعدة، وليس العرف. البعض هاجمه لمجرد كونه مسيحي، وحاربه الأخرون بسبب وساعة علمه ومكانته السياسية، التي كانت تهدد مشروعهم وشعبيتهم في الشارع السوري. أول المنتقدين كان زميله في الكتلة الوطنية، الوزير والنائب عن حلب عبد الرحمن كيالي، وهو زميل أيام الدراسة مع فارس الخوري منذ أيام جامعة بيروت الأميركية. في مذكراته “المراحل في الانتداب الفرنسي” الصادرة في حلب سنة 1958 (أي على حياة فارس الخوري)، يقول الكيالي: “كان كثير القول، وقليل الحزم”، وأنه “كان يحرص على إرضاء كل طالب وكل مراجع، لكسب الشعبية”. كما قال إن الخوري كان يشترط على رؤساء الحكومات تعيين شقيقه فائز الخوري وزيراً في كل حكومة لم يكن فارس مشاركاً فيها.
أما الانتقاد الثاني، فكان أنه بالغ في مدح اتفاقية عام 1936 مع الفرنسيين، الذي كان له اليد العليا في إبرامها، وأنه وصفها بالقول: “إنها معجزة القرن العشرين”، وكانت هذه المعاهدة قد وقعت في فرنسا سنة 1936، ونصت على إعطاء سورية بعض الحقوق السياسية، وضم الجبلين (العلوي والدرزي) إليها، مقابل إعطاء الفرنسيين حق الانتفاع من الأرضي السورية في حال نشوب حرب عالمية جديدة في أوروبا، وحق حماية الأقليات وإلحاق مستشارين فرنسيين بالجسم الحكومي السوري. لم تكن استثنائية ولم تُعطي سورية استقلالها المنشود، وكان من المستغرب وصف الخوري لها “بالمعجزة”، وهو القارئ النهم والمطلع على تجارب الشعوب ومعجزاتهم السياسية والاقتصادية. الحقيقة أن الخوري لم يكن وحده ممن بالغ في الترويج لهذه المعاهدة، فقد وصفها زميله جميل مردم بك بأنها “عروسة الشرق”، وقال فيها سعد الله الجابري: “لم يبق على فرنسا إلّا أن تعطينا مارسيليا”، وثلاثتهم طبعاً كانوا مستفيداً من المعاهدة، التي أوصلت فارس الخوري إلى سدّة البرلمان السوري وجعلت من جميل مردم بك رئيساً للحكومة، ومن سعد الله الجابري وزيراً للخارجية والداخلية. بعد فشلهم في الحكم ورفض فرنسا تطبيق المعاهدة، قام الخوري بتصويب موقفه وتراجع عن كلامه عندما وصف ذات المعاهدة بأنها “مبتورة، عرجاء، ومشوّهة”.
فارس الخوري المسلم
وبعد وفاة فارس الخوري سنة 1962، أشيع في الأوساط المسلمة أنه أسلم قبل وفاته، نظراً لوجود عدد من المشايخ في عزائه، يقرؤون القرآن، ما اعتبره الكثيرون تنفيذاً لوصيته. وجاء الصحفي محمد الفرحاني، ابن دير الزور، الذي لازم الخوري في أيامه الأخيرة وهو على فراش المرض، وقال إن الرجل أوصى أن تُتلى على قبره سور البقرة ومريم وياسين. أثلج هذا القول قلوب المسلمين السوريين الذين أحبوا فارس الخوري وكان دينه المسيحي يقف عائقاً أمام مجاهرتهم بهذا الحب. وما زاد من تكهن الناس هو أن الخوري وضع مقدمة لأطروحة الدكتوراة التي تقدم بها السفير نجيب الأرمنازي إلى جامعة باريس، وكان موضوعها “الشرع الدولي في الإسلام”، نشرت الأطروحة باللغة الفرنسية وتم ترجمتها إلى اللغة العربية عام 1930، وتحدث فيها كل من الخوري والأرمنازي عن الدولة الإسلامية، في القانون والتاريخ، وقواعد الشرع في الحرب والسلم. ونجيب الأرمنازي طبعاً هو الذي أصبح بعد حين مديراً لمكتب الرئيس محمد علي العابد، ثم سفيراً لسورية في لندن في مطلع عهد الاستقلال.
المعروف أن فارس الخوري انشق عن المذهب الأورثودوكسي واعتنق البروتيستانتية في شبابه، كما فعل جده لأبيه في أواسط القرن التاسع عشر. اولكن الفرحاني نفسه يعترف في كتابه “فارس الخوري وأيام لا تنسى” أن الخوري كان متعصباً لمسيحيته، ولكنه كان معجباً بالإسلام وحافظاً للقرآن، مثله مثل الكثير من المسيحيين من أبناء جيله. البعض منهم حفظ القرآن إعجاباً ببلاغته وفصاحته، وأما الآخرين، فقد حفظوه لكي يتمكنوا من مناقشته ومحاججته داخل المجتمع السوري. يقول الفرحاني، نقلاً عن فارس الخوري، إنه كان يرى أن الإسلام “درع حصين ضد الشيوعية” وأنه قال: “لا حياة للعرب ولا قوة بغير الإسلام”. يضيف الفرحاني أن الخوري رأي في الإسلام القدرة على إصلاح المجتمعات العربية. وأخيراً ينقل عن الخوري قوله: “يمكن تطبيق الإسلام كنظام دون الحاجة للإعلان عنه، كما يطبق حكامنا اليوم الشيوعية (في إشارة إلى جمال عبد الناصر) دون أن يعلنوا لأحد بأنهم يطبقوا الشيوعية”. كما قال: “لو خيرت بين الإسلام والشيوعية، لاخترت الإسلام”.
ولكن أهم ما جاء في كتاب الفرجاني، المنشور سنة 1965 في لبنان، قوله إن شكري القوتلي كان لا يريد لفارس الخوري تولي رئاسة المجلس النيابي، وأنه فضل القص شاكر الدبس أو زميله في الكتلة الوطنية لطفي الحفار. لا يوجد أن نص أو محضر يؤكد صحة هذا الكلام من عدمه، وقد قال الفرحاني أنه جاء على لسان فارس الخوري نفسه في أيامه الأخيرة وهو على فراش الموت. ويضيف الفرحاني، نقلاً عن الخوري، إن أهالي حي الميدان المحافظ قاموا بشطب اسم فارس الخوري من لوائح الكتلة الوطنية خلال انتخابات عام 1943، لأنه مسيحي.
ثم يأتي من يقول إن فارس الخوري كاد أن يصبح رئيساً للجمهورية، لولا وجود المادة الثالثة من الدستور، التي تقول إن دين رئيس الدولة هو الإسلام. وهناك من يضيف، نقلاً عن فارس الخوري من دون أي سند تاريخي، أنه قال لضيوفه ذات يوم: “لو سقطت النقطة من اسمي، لأصبحت رئيساً لسورية”، وهو يعني طبعاً أن لو كان أن اسمه “فارس الحوري” أو “فارس الجوري (وهي عائلات مسلمة) لوصل إلى رئاسة الجمهورية. الحقيقة أن فارس الخوري كان أوعى وأنضج من البوح بكلام سخيف من هذا النوع، لأنه سيّد العارفين بقومه، وهو يدرك أنه كان وسيبقى، بالرغم من كل ما يتمتع به من ميزات، مواطن درجة ثانية في سورية، مثله مثل المسيحيين كافة. ففي سورية الديمقراطية كما في سورية العسكر، اعتقاد راسخ أن الحكم يجب أن يبقى في أيدي المسلمين، وهذا ما قاله على الطنطاوي قبل أكثر من ستة عقود، وما زال سارياً حتى اليوم.