د . غادة بوشحيط – الناس نيوز ::
في الجزائر كما في المنطقة المغاربية عموماً، تعجز صناعة الدراما التلفزيونية على فرض منطقها، وعلى التبلور حتى كقطاع منتج خارج أطر مناسباتية، ولعل ذلك ما يفسر كم الانتاجات التي تشق طريقها نحو المشاهدين خلال شهر رمضان كل سنة، والتي تبدو مهمة مقارنة بما ينتج خلال باقي شهور السنة، وغير قابلة للمقارنة حتى مع ما ينتج في دولة كمصر مثلا ومنطقة الخليج العربي بل حتى سوريا التي عادت لتصنع الحدث بعد أن خفت بريقها لسنوات بسبب الحرب، ولا يكاد يعلن موسم الصوم حتى تنطلق الانتقادات التي تطال هذه الأعمال التي يظل مستواها متذبذباً.
لا شك أن فتح قطاع السمعي-البصري أمام الخواص انطلاقاً من سنة 2012 قد ساهم في خلق سبل بديلة وأخرى مستحدثة تماماًللإنتاج التلفزيوني عموماً في الجزائر، والدرامي خصوصاً، هو القطاع الذي ظل شبح التلفزيون العمومي مخيماً عليه لعقود، على الرغم من الكثير من الإنتاجات المتميزة التي كانت تتفرد بإحداث المفاجأة من فترة إلى أخرى.
لكن المتابع للإنتاج التلفزيوني عامة والدرامي خاصة سيلاحظ استشراء ظاهرة تكاد تكون جزائرية محضة خلال الموسم الرمضاني الجاري، يجدر التوقف عندها والتأمل فيها، فجل النصوص التي تحولت إلى أعمال، أو على الأقل تلك التي تتربع على عرش الأكثر مشاهدة هي استنساخ وتطوير لنصوص أو اسكتشات صغيرة شكلت لوحات من سلسلات وبرامج ناجحة خلال السنوات الماضية.
من ضمن البرامج التي صنعت الرمضان الجزائري منذ انفتاح قطاع السمعي البصري على الاستثمار الخاص كان برنامج “جرنان القوسطو” وقد جاء امتداداً لتجربة جزائرية خاصة عرفت بـ “قهوة القسطو”، وهي برنامج مواهب بسيط يعمل على اكتشاف وتطوير مواهب فيما يسمى بالـ”stand up comedy” والذي ساهم في بروز أسماء أصبحت اليوم من الأهم في المجال كمحمد خساني ومفيدة عداس، اللذين وبرفقة الكثير من الأسماء التي لمع نجمها عبر برنامج اكتشاف المواهب شكلوا الفريق المؤسس ل”جرنان القوسطو”، والذي اتخذ من النقد السياسي والسخرية من الشخصيات العامة، بنبرة غير معهودة مادة لأعداده اليومية خلال مواسم رمضان لسنوات، تحت قيادة الأكاديمي المخرج والممثل د/عبد القادر جريو، هو البرنامج الذي هاجر بفريقه وفكرته مع تغيير اسمه عبر عدة قنوات قبل أن يختفي تماماً، دون أن ينجح أي فريق آخر في استعادة روحه على الرغم من المحاولات التي تبنتها عدة قنوات، لكن أثره باقي ومخيم على الإنتاج التلفزيوني في الجزائر.
من ضمن أكثر البرامج مشاهدة على المستوى الوطني التي تصنف ضمن الأعمال الكوميدية تأتي سلسلة “فالتسعين” التي كتبها ويخرجها فنيا د/عبد القادر جريو و تقنيا مراد قلعي ويؤدي الأدوار الرئيسة فيها كل من محمد خساني، سهيلة معلم، مصطفى لعريبي للموسم الثاني على التوالي، تشكل عشرية التسعينات مادتها الأساسية، بطلها “حميد” (ويؤدي دوره محمد خساني)، ما هو إلا مغني راي ذاع صيته سنوات التسعينات، يكنى ب”الشاب حميد” وهي الفكرة والشخصية التي كثيراً ما تم توظيفهما خلال سنوات عرض برنامج “جرنان القوسطو”، تستعيد ذكريات سنوات العشرية الأخيرة في القرن الماضي كما عاشها الجزائريون حتى أكثرها مرارة كذكرى الحرب الأهلية ويتم تناولها في إطار ساخر وخفيف.
“دقيوس ومقيوس” سلسلة كوميدية ساخرة أخرى تحظى بشعبية كبيرة داخل البلاد، دخلت السباق الرمضاني بنسخة تالية للنسخ التي سبقت خلال السنوات الماضية، وتقوم على بطلين أساسيين هما “دقيوس ومقيوس” شيخان يعيشان بدار للمسنين، لا يفترقان أبداً، لهما الكثير من النزعات الشريرة والمضحكة في آن. المميز في طبعة الموسم الحالي ابتعاد السلسلة عن الخوض في أمور السياسة صراحة عكس بعض الطبعات الماضية، مع الحفاظ على النقد الاجتماعي الذي تمارسه. وهي شخصيات قد سبق واستخدمت في برنامج “جرنان القوسطو” أيضا وإن لم تحمل نفس التسميات.
لم يتعد عدد الأعمال الدرامية الاجتماعية المهمة التي دخلت السباق الرمضاني الحالي في الجزائر عدد المسلسلات الأربع وهي، “عندما تجرحنا الأيام”، “أنين الأرض”، “يما” و”بابور اللوح” الذي يتربع على عرش الأكثر مشاهدة ويتناول مأساة “الحراقة” أو “الهجرة غير الشرعية” التي لا تزال تحصد أرواح الكثير من الشباب المغامر عرض البحر. “بابور اللوح” كان قد عرض على منصة “يرى” الرقمية من سنتين ولكن لم يحظ بالشعبية إلا حين عرف طريقه نحو جمهور التلفزيون بشكله التقليدي.
ما يعاب على “بابور اللوح” هو الشبه الذي أحسه الكثيرون في أداء الممثلين خصوصاً الرئيسيين مع أبطال مسلسل آخر صنع الحدث من ثلاث سنوات وهو “أولاد الحلال” النسخة الجزائرية لمسلسل “أولاد مفيدة” التونسي، ربما لأن كلا العملين يمعنان في وصف حياة الطبقات الأكثر فقراً في الجزائر، وكلاهما صورا بمدينة وهران غرب الجزائر، إضافة لنفس الفريق الذي شارك في العمل الأول، كما قوة كتابة نصي المسلسلين التي لا يمكن إنكارها مقارنة بباقي الأعمال التي لا تزال تتناول قضايا مكرورة في الدراما الجزائرية.
على الرغم من الشعبية التي تحظى بها هذه الأعمال التلفزيونية الجزائرية على الصعيد الداخلي إلا أن الانطباع المشترك الذي تتركه لدى المتابع هو ضعف الحوارات، خصوصاً والتي تترك للارتجال في كثير من الأحيان مجالاً واسعاً ما يشعر المشاهد بعدم ارتياح، إضافة لضعف النصوص من ناحية البناء الفني والحبكة، عكس السينما الجزائرية والتي وإن اتسم إنتاجها بضعف الكم، إلا أنه لا تكاد تمر سنة دون أن يلمع اسم مخرج، أو يحظى عمل سينمائي بجوائز مهمة، خصوصاً وأن بعض مخرجي السينما يخرجون للتلفزيون أيضاً.
استثمار المخرجين وشركات الإنتاج في استنساخ أفكار سبق وحظيت بنجاح وجماهرية، دون تطوير واشتغال الفعلي والكافي عليها لا يمكن تفسيره سوى بغياب أبجديات صناعة درامية وتلفزية حقيقية، مستمرة وغير موسمية وقادرة على المنافسة في أسواق أكبر، مجدية اقتصاديا، تحترم قوالب الإنتاج ضمن اللون الفني ومنفتحة على التجديد في الأقلام والتصورات وإلا سيجعل جيل من صنع مجد “جرنان القوسطو” يصبح مادة للسخرية من طرف الأجيال اللاحقة، تماماً كما فعل فريق “عبد القادر جريو” باقتدار مع من سبقوه وجعل الملايين يثقون بمقدرات وطلائعية جيله وهو كتميمة حظ للفنون الدرامية في الجزائر، بل قد يتحول لمؤشر على دخول هذا الجيل كاملاً قاعة الإنعاش قبل أن يزهر فعلاً ويحصد المزيد من التميز.