علي عبد الله – الناس نيوز :
في مطلع القرن العشرين قام الشريف محيي الدين حيدر* بتأسيس مدرسة بغداد للعود التي نجحت باستقطاب أنامل خيرة المبدعين المداعبين لأوتار العود ونغماته.
ويقف جميل بشير وشقيقه منير بشير** من بين أبرز تلاميذ هذه المدرسة وفي الصف الأول منها، إذ تعمقا في مفهوم مؤسس المدرسة وأفكاره التي يبحر بها بعيداً عن سلطة المغني وسطوته التي تزامنت مع ظهور آلة العود ونشأتها منذ القدم؛ بوصفها الآلة الموسيقية المرافقة للغناء والطرب، فنقلها من عضوية وتبعية التخت الشرقي و( الچالغي البغدادي)*** الذي يقف خلف المطرب أو قارئ المقام إلى وظيفة جديدة تتقدم المطرب والتزاماته، لتكون متفردة ترتقي إلى فضاءات أرحب نحو ناصية التعبير الجمالي في استثمار مديات العزف الكبيرة التي تتضمنها تلك الآلة؛ متجاوزةً مساحاتها الفيزيائية العزفية الضيقة.
ظهرت فيما بعد قدرات لعازفين مبدعين انطلقوا من هذه المدرسة المتفردة، وأبرزهم: المعلم الكبير غانم حداد – التلميذ الأقرب لبرنامج الشريف محيي الدين حيدر وتطبيقه، وهو الأستاذ المتمرس في معهد الفنون الجميلة الذي أسسه الشريف محيي الدين حيدر، وكذلك المعلم الكبير سلمان شكر.
وأسهم المعهد في تخريج نخبة من عباقرة العزف على آلة العود من المحدثين في قائمة تضم عدداً كبيراً من الأسماء اللامعة والمؤثرة في الحياة الموسيقية في نطاق المحيطيّن العراقي والعربي، ومنهم:علي الإمام- شيخ العود، خالد محمد علي، سالم عبد الكريم، صفوت محمد علي، رائد خوشابا، علي حسن، وسامي نسيم- المتألق عزفاً وفكراً ودراية.
وشهدت بغداد في عام ١٩٧٠ تأسيس معهد الدراسات الموسيقية المتخصص بالآلات الموسيقية التقليدية وأشكال الغناء التراثي وتفرعاته، فتخرج من هذا المعهد أمهر العازفين الشباب وكان من بينهم نصير شمه الذي تخرج عام ١٩٨٧.
شق نصير شمه طريقه في خضم الكم النوعي من فرسان العزف على آلة العود وجمالياتها، مكتسباً مهارات متطورة، ومتحلياً بذكاء خارق، وشبكة علاقات استطاع أن يديرها بحكمة وعقل راجح.
فكان الفارس الذي عرف كيف يكون، لذلك تألق عازفاً بارعاً لينطلق باتجاه نهل المعرفة الفلسفية والتجارب الصوفية التي توضحت جلياً في مراحل حياته الفنية التي كان قدوته فيها المبدع المتأصل جميل بشير.
حلق نصير شمه مع ذائقة جمهوره المحلي والعربي إلى رحاب العالم وآفاقه، فعندما يقترن الفن بالفكر النيّر يستدل الفنان طريقه نحو المجد والذرى بثقة عالية مستعيناً بقدراته ومهاراته التي تسعفه في كل حين.
هذا ما ميّز نتاج نصير شمه الفنان المفكر الذي وظف فنه بإخلاصه ومثابرته في كل بقاع العالم مستنيراً برؤى التعبير عن هموم الناس وقضاياهم.
حمل شمه لواء الإنسانية وترجم شعاره إلى نغم جمالي رفيع شهدت له ساحات الفن المغلقة والمفتوحة، التقليدية منها والاستثنائية، في أغلب مدن العالم، ونال منها الإعجاب والتقدير حتى أصبح خير من يمثل الجانب المشرق للإنسان المعاصر.****
لذلك حصد شمه أرفع الأوسمة والنياشين التي اصبحت تزيّن مسيرته الخلاقة، وتُوجت تلك المسيرة الحافلة بالعطاء والمثابرة التي أدت إلى التفاتة منظمة اليونسكو لهذا المبدع الكبير فانبرت لتكليفه بمهمة سفير النوايا الحسنة عام ٢٠١٧، وقامت بتجديد تلك المهمة دورة ثانية له ، مؤخرا ،في خطوة استثنائية ولأول مرة في تاريخها.
لم يكتف شمه بإقامة حفلاته عازفاً منفرداً، بل قدم حفلات مشتركة مع فرق موسيقية أنشأ بعضها لهذا الغرض لتنقل أفكاره الموسيقية الجديدة وتأصيلها، فضلاً عن اشتراكه مع عازفين عالميين في صنوف الموسيقى المختلفة وأشكالها.
ويجدر بِنَا أن نذكر خصائص شخصية هذا الفنان المبدع بفنه وإنسانيته التي وثق فيها حرصه على نشر علومه وتجاربه على أوسع نطاق ليفيد بها الأجيال القادمة، ففي خطوة جريئة تحسب له وتؤكد عدم احتكاره للفن والمعرفة ونشرها على نطاق أوسع؛ قام بتأسيس بيت العود في القاهرة، وبلدان الخليج العربي، وتونس، وفي بلاد المغرب العربي الأخرى، وهي مؤسسة تعنى بتعليم العزف على آلة العود وفنونها، وبذلك أسهم في تخريج عدد كبير من العازفين البارعين انتشروا في بلاد الدنيا وهم يحملون رسالة الموسيقى النبيلة وجمالياتها.
قاد نصير شمه حملة كبيرة لتطوير صناعة آلة العود وتشجيعها بعد أن باتت الصناعة التقليدية غير مستوفية لطبيعة طرائق العزف المعاصرة، وأصبح لزاماً على العازفين الشباب استثمار زيادة الأوتار ودوزانها، فضلاً عن حجم الآلة وشكلها.
وكما هو، متميز بعطائه ومسيرة حياته الإبداعية، فهو فنان استثنائي في نظر المجتمعات العالمية التي منحها حبه وإبداعاته، ومنحته بالمقابل ثقتها به مبدعاً من طراز خاص عن استحقاق وجدارة، إذ أصبح بحق خير مترجم لمدرسة بغداد للعود وفرسانها، واستحق بذلك أن يكون زرياب العصر.
- الشريف محيي الدين حيدر:١٨٩٢- ١٩٦٧
والده كان آخر أمير عينه العثمانيون على مكة المكرمة. - فضلاً عن تأسيسه لمدرسة بغداد قام بتأسيس معهد الفنون الجميلة في بغداد عام ١٩٣٦، ليكون أول صرح علمي للفنون في العصر الحديث.
**- جميل بشير/ ١٩٢١-١٩٧٧: الخليفة الفعلي لمدرسة الشريف محيي الدين حيدر. - منير بشر/ ١٩٣٠-١٩٩٧
*** -التخت الشرقي التقليدي يتكون من: آلة القانون، العود، الناي، والإيقاع( وقد أضيف له بعض الآلات الأخرى لاحقاً). - الچالغي البغدادي: فرقة موسيقية مصغرة معناها الحرفي( الحفلة) تختص بمرافقة غناء المقام العراقي، وتتكون من: السنطور، الجوزة، الناي، والإيقاع.
****فضلاً عن حفلاته المتعددة في العراق؛ كنت شاهداً حياً على تفاعل الجمهور الكبير مع براعته في العزف والتأليف والارتجال خلال حفلات متعددة حضرتها في أوپرا القاهرة، وغيرها في تونس، ولبنان وسوريا وبعض بلدان الخليج.