ميديا – الناس نيوز ::
أنس أزرق – العربي الجديد: عاشت سورية خلال عقد الثمانينيات من القرن الماضي أحداثاً مزلزلة، أسّست لما وصلت إليه البلاد لاحقاً من تغوّل سلطة الأسد الأب إلى وراثة الأسد الابن ومن ثم انفجار سورية وثورتها عام 2011، لنصل اليوم إلى حالة البؤس وانعدام الأمل وحال التشتت والضياع والهوان الذي يعيشه معظم السوريين. في هذه المادة، عبر حلقتين، وقبلها عبر ذاكرة غسان النجار أمين سر نقابة المهندسين في حلب، محاولة لفهم ما حدث خلال الصراع بين نظام حافظ الأسد الأمني العسكري مع جماعة الإخوان المسلمين وطليعتهم المقاتلة والتي استغلها النظام للقضاء على أي شكل من أشكال معارضته وإعلان وفاة السياسة، بل وحتى المجتمع، ليحيا “قائدنا إلى الأبد، الأمين حافظ الأسد”.
في هذا الصراع، الذي تركّز بداية في مدينة حلب وانتهى في مدينة حماة، قُضي على حركة مدنيّة نادت بدولة القانون والحريات ونظام سياسي ديمقراطي، وتجلّت بحركة النقابات التي تصدّرت الصراع السياسي مع النظام بالدعوة إلى إلغاء الأحكام العرفية وإنهاء سيطرة حزب البعث على الدولة وإطلاق سراح المعتقلين وحرية العمل السياسي والحقوقي والصحافي.
لعبت نقابة المحامين الدور الأبرز بتبني هذه المطالب والدعوة للإضراب العام في سورية والذي كان مقرراً في 31 -1-1980 وأُجِّل شهرين بناء على وعود وتمنّيات من عبد الرؤوف الكسم رئيس الوزراء حينها.
كان دور نقيب محامي حلب وعضو الهيئة العامة للنقابة في سورية سليم عقيل في هذا الحراك أساسياً. وعندما خرج من المعتقل أصيب بالعمى الجزئي، فلم يستطع تدوين مذاكرته، فقام ابنه الأكبر خالد بهذا الأمر، ونشر مذكرات والده، مسجّلاً أيضاً مشاهداته كطالب في جامعة حلب عن تلك المرحلة بكتاب (إرث ثورة) الصادر عام 2021 عن دار زقاق الكتب في إسطنبول.
لم يف النظام بوعوده عند تأجيل الإضراب العام، وبدلاً من ذلك اعتقل أعضاء النقابات، ولاحقاً عمل على حلّها وتعيين قيادات موالية له بدل القيادات المنتخبة. كذلك شنّ النظام حملة عسكرية وأمنية شديدة العنف على حلب وإدلب وجسر الشغور وغيرها، انتهت بسقوط آلاف الضحايا والمعتقلين وإخراس المجتمع حتى عام 2011.
حول تلك المرحلة كان حوارنا مع خالد عقيل عن ذكريات والده وشهادته عن أحداث حلب 1980.
* أنت ابن الراحل سليم عقيل نقيب محامي حلب وعضو مجلس الشعب في بداية عهد الرئيس حافظ الأسد وأيضاً المعتقل السياسي لمدة تسع سنوات من عام 1980 حتى عام 1989، كيف حصل هذا التحوّل؟
عاصر والدي الاحتلال الفرنسي طالباً في مدرسة التجهيز الأولى في مدينة حلب (ثانوية المأمون) وكان رئيساً للجنة الطلابية التي كانت تنظم المظاهرات عام 1936 وقد اغتال أحد الضباط الفرنسيين خلال المواجهات بين المتظاهرين والطلاب.
تخرج والدي في كلية الحقوق في دمشق ومارس مهنة المحاماة وكان عضواً في الحزب الاشتراكي العربي برئاسة أكرم الحوراني، وعندما دُمج الحزب مع حزب البعث ترك أبي الحزب الاشتراكي.
انتخب نقيباً لمحامي حلب أواخر عام 1969 واستمر حتى عام 1973، وعندما زار حافظ الأسد مدينة حلب (الزيارة الوحيدة للأسد الأب إلى حلب، على عكس ابنه بشار الذي زار المدينة مرات عديدة) بعد حركته عام 1970 والتقى بفعاليات المدينة، ومنها نقابة المحامين، طالبه والدي بالإفراج عن ستة محامين معتقلين، وبالفعل أُفرج عنهم. خلال اللقاء مع رابطة المحاربين القدماء اقترح رئيسها عادل ميري على الأسد انتخاب أعضاء مجلس الشعب المزمع تشكيله بدلاً من التعيين، فردّ الأسد بتعذّر الوقت، فاقترح ميري أن يُعيّن رؤساء النقابات كونهم منتخبين ووافق الأسد على الاقتراح، وبالفعل أصبح والدي عضو مجلس الشعب الذي شُكّل عام 1971 ولمدة عامين. كان والدي فعالاً في مجلس الشعب، خاصة في موضوع الدستور عام 1973، ولا سيما حول مادة دين الدولة الإسلام حيث كان والدي مؤيداً لتلك المادة، كونها كانت موجودة في دستور عام 1950، كذلك عارض والدي المادة الثامنة التي تقول بقيادة حزب البعث للدولة والمجتمع. انتهى النقاش حول مادة الإسلام دين الدولة بتسوية عبر وضع مادة تقول إن دين رئيس الدولة الإسلام.
وعندما انتهى هذا الدور التشريعي، كان هناك عشاء وداعي لأعضائه بحضور رئيس الدولة، وعندما صافح الأسد والدي شكره على جهده في المجلس، وأضاف أن لديه ملاحظة عليه؛ وهي أنه استغل مناقشات المجلس حول الدستور ونقلها إلى الشارع محرضاً، مما سبّب خروج مظاهرات في حلب وحماة. في انتخابات مجلس الشعب عام 1973، شكل والدي قائمة كاملة (قائمة الأحرار) لمنافسة قائمة الجبهة واكتسحت القائمة الانتخابات، إلا أن التزوير حصل، فأعلن عن نجاح أربعة فقط من القائمة هم: إبراهيم السلقيني (مفتي حلب لاحقاً)، زين العابدين خير الله، عبد الكريم عزيزي، عادل حج مراد واستُبعد والدي. تكرر الأمر في انتخابات عام 1977، ولكن هذه المرة لم ينجح أحد من قائمة الأحرار وفازت قائمة الجبهة الوطنية التقدمية كاملة.
* ساهم والدكم مساهمة كبيرة في الحراك النقابي خلال ما عُرف بأحداث الثمانينيات، لو تُحدثنا عن ذلك.
أصدرت نقابة المحامين في أواخر عام 1979 بياناً دعت فيه إلى حل الحكومة ومجلس الشعب وإطلاق الحريات العامة وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين والتوقف عن الاعتقالات والإعدامات الميدانية والابتعاد عن الحل الأمني والإعلان عن انتخابات لمجلس الشعب حرة نزيهة. كما أعلنت عن إضراب عام يبدأ في 31-1-1980، ولكن رئيس الوزراء آنذاك عبد الرؤوف الكسم دعا مصدّري البيان لاجتماع. في بداية الاجتماع، حاضر الكسم بالمجتمعين، مذكراً إياهم بالهجمة الإمبريالية الشرسة، وعن لزوم التحصن في خندق واحد وطلب منهم إلغاء الإضراب. ردّ والدي بأننا لسنا في خندق واحد، وقال له ما مفاده: نحن في خندق الحريات وأنتم اغتلتم الحريات واحتكرتم السلطة، فغضب الكسم، ولكن المحامي عمر الهيب تدخل مذكراً الكسم أنه دعاهم للاستماع إليهم، ولا خير فينا إن لم نقلها ولا خير فيكم إن لم تسمعوها، كما قيل للخليفة عمر رضي الله عنه. جرى التوصل إلى تأجيل الإضراب شهرين لتحقيق مطالبهم التي وعد الكسم بتلبيتها، وإن لم يحصل ذلك سيستقيل وينضم إليهم، وفي ختام الجلسة عانق والدي.
* هل هذه الدعوة للإضراب كانت باسم نقابة حلب؟
كان في سورية ثلاث نقابات للمحامين في دمشق وحلب واللاذقية، ولكن عندما صدر قانون توحيد النقابات عام 1973 وُحّدت النقابات الثلاث في نقابة محامي سورية.
* ماذا حصل بعد ذلك؟
تصاعد الحراك في مدينة حلب وعمّت الاعتصامات والإضرابات والمظاهرات المدينة وتصاعد الدخان بسبب حرق الدواليب في أحياء حلب القديمة يوم الثلاثاء 3-3-1980، وكنت يومها من منظمي تظاهرة الجامعة، فحوصرنا في كلية العلوم وكانت الوحدات الخاصة تطلق علينا الرصاص الحي فهربنا من الأبواب الخلفية ووصلت إلى منزلنا في شارع بارون الذي كان كتلة سوداء حيث أحرقت الباصات العامة وسيارات الحكومة ومكاتب الطيران، ما عدا مكتب الخطوط الجوية السعودية.
* لماذا أُحرقت الجمعيات الاستهلاكية وأكشاك الخبز؟
طبعاً أنا لا أوافق على هذا الشكل من الاحتجاج، ولكنه الغضب الشعبي.
* هل كانت هذه المظاهرات بدعوة من الإخوان المسلمين أو الطليعة المقاتلة؟
حراك الطليعة المقاتلة حرّك الماء الساكن بسبب الرد الأمني والعسكري العنيف من النظام. كان عندي أصدقاء من الطليعة سألتهم حينها ما هي خطتكم وقد أصبحت المدينة تحت نفوذكم؟ كان الجواب: نحن نتوقع انشقاقاً عسكرياً! لقد هز حراك 1980 عرش حافظ الأسد، وقد حمّل النظام مسؤولية ذلك سياسياً للنقابات، وتحديدا نقابة المحامين. خرجت الأمور عن السيطرة يوم الجمعة 7-3 حيث حصلت مجزرة باب الحديد حين خرج المتظاهرون بعد صلاة الجمعة من جامع أسامة بن زيد بحي أقيول (كان خطيب الجامع والد المفتي أحمد حسون) وأطلقت عليهم الوحدات الخاصة الرصاص وقتلت حوالي خمسين متظاهراً.
* هل فاوض النظام قبل اقتحام المدينة؟
أرسل النظام لجنة أمنية اجتمعت مع فعاليات المدينة المختلفة وكانت تطلب فك الإضراب وإيقاف التظاهر.
* وصلنا إلى يوم الإضراب العام 31-3، ماذا حصل؟
لم تضرب سوى مدينة حلب وجسر الشغور وإدلب، فيما كان الإضراب جزئياً في حماة، نزلت الوحدات الخاصة وحطمت المحال التجارية، ودخلت دبابة إلى حرم القصر العدلي وقامت دورية من الأمن السياسي باستدعاء والدي لمقابلة نديم عكاش رئيس الفرع، وفي المساء أرسلوا عنصراً أمنياً طلب حضوري مع حقيبة تحوي بعض لوازم والدي الذي كان قد جهز الحقيبة سابقا لكونه قد اعتقل عدة مرات.
* منها مرة في عهد البعث الأول عندما كان أمين الحافظ وزيراً للداخلية!
كان أمين الحافظ قريبا وزميلاً لوالدي في الثانوية، وكان قد أصدر قراراً بعد ما سمي ثورة آذار 1963 باعتقال المناوئين للتوجه الوحدوي.
* هل كان سليم عقيل ضد الوحدة؟
إطلاقاً، كانت لديه ملاحظات على موضوع الحريات وحل الأحزاب. والدتي محامية مصرية وقد التقاها والدي في أحد مؤتمرات المحامين في مصر وكنت أنا أول مولود في دولة الوحدة من زواج من الإقليمين الشمالي والجنوبي.
رائد الفضاء محمد فارس
يروي خالد عقيل: تزوج النقيب الطيار محمد فارس ابنة عمتي هند عقيل عام 1978، أُوفد إلى ليبيا لتدريب الطيارين الليبيين في فترة أحداث حلب عام 1980، وضمن برنامج إيفاد رائد فضاء سوري للاتحاد السوفييتي تم اختياره مع 80 طيارا للخضوع لفحوص اللياقة البدنية ونجح مع زميل له وكان سفره لموسكو عام 1985-1987. وبعد انتهاء فترة الدراسة والتدريبات تم اختياره رائد فضاء أساسياً وزميله احتياطاً. في 22 يوليو/تموز 1987 انطلقت الرحلة الفضائية السوفييتية السورية المشتركة إلى محطة مير الفضائية واستمرت أسبوعاً قام خلالها محمد فارس بتنفيذ مهام بإشراف علماء سوريين وكانت المحادثة الشهيرة بين حافظ الأسد وفارس من على متن محطة مير الفضائية.
طلبتُ من محمد فارس قبل مقابلته حافظ الأسد التدخل للإفراج عن والدي، وعدني بذلك مع اختياره للوقت المناسب. قبل دخول فارس إلى مكتب الرئيس، انفرد به سكرتير الرئيس (أبو سليم دعبول) وطلب منه أن تكون المقابلة مع الرئيس مقتصرة على الرحلة الفضائية. خلال حفل استقبال تم في حلب على شرف محمد فارس وكان من الحاضرين رئيس الأمن العسكري في حلب مصطفى التاجر ورئيس أمن الدولة بحلب عمر حميدة، وصل رواد الفضاء إلى الحفل المذكور. وقف الحضور جميعاً وبدأ التصفيق الحار ورد عليهم محمد فارس بالتحية وأمسك كلتا يديه لتحية الحضور، هنا قال مصطفى التاجر: “لا يا محمد فارس، لم يفعل تلك الحركة في سورية سوى شخص واحد” يقصد حافظ الأسد.