ميديا – الناس نيوز ::
أنس أزرق – العربي الجديد كنت في أولى سنوات الإعدادية، مدرسة يوسف العظمة في حي باب النيرب في مدينة حلب حيث شاهدت مجموعة اغتيالات وتفجيرات وملاحقات وعشت أحداث المدينة من دخول الفصائل البعثية المسلحة لمدرستنا واتخاذها من سطحها مركزا لها مرورا بحوادث الاغتيال وما يرافقها من مناشير تلصق وتوزع، بعضها يتبنى العملية ويرجم المُغتال وحزبه، والآخر يترحم على الضحية ويتعهد بالثأر لدمه والكل يتكلم باسم الشعب وصولا لحرق الدواليب في جب القبة وتكسير أكشاك الخبز ونهب الجمعيات الاستهلاكية ولاسيما استهلاكية باب الحديد والمظاهرات التي تنادي (لا شرقية ولا غربية، بدنا دولة إسلامية)، وانتهاء بمعايشة الرعب القاتل ولا سيما يوم الجمعة حين لم يعد عمي مروان أزرق من تظاهرة جامع أسامة بن زيد في أقيول وصحبتُ زوجة عمي لبيت أهلها القريب من الجامع لعل عمي يكون عندهم. وما إن وصلنا حتى أذاعوا منع التجوال ولكن زوجة عمي أصرت على العودة لمنزلها في برية المسلخ العتيقة، حارة الضوضو حتى إذا جاء عمي يجدها في البيت. عدنا من الحارات القديمة وكان حظنا أن يسألنا أحدهم الى أين تذهبان؟ فشرحنا له حالنا فقال تعالا معي وعندما نصل إلى جامع أسامة ويسألكما حاجز الوحدات من أنتما، قولا إنكما معي، أختي وابنها وأنا عنصر أمن من حلب. بالفعل وصلنا أمام الجامع وشاهدنا مجموعة من الجنود يضربون بالكرابيج والعصي مجموعة من الأشخاص الذين أوقفوهم تجاه الحائط بينما جنود آخرون أشعلوا نيرانا يستدفئون بها. وصلنا إلى حيّنا ولم يعد عمي الذي علمنا أنه في المشفى الجامعي مصابا بثلاث رصاصات ومات بعد ثلاثة أيام وحمد بعضنا الله أنه مات لأنه كان سيلاقي ما هو أشد من الموت، والمفجع أكثر أن العائلة أجبرت على كتابة معروض للسلطات تقول فيه إن فقيدنا قد قتلته العصابات المسلحة. مما علق في ذهني وهو عصي على النسيان منظر جثة متفحمة لمسلح من الطليعة المقاتلة كان ملاحقا ورفيقه في حي الألمه جي حيث كنت في زيارة إلى بيت جدي لأمي، ولم يجد المسلح سوى فرن الألمه جي للاختباء. وعندما حوصر دخل إلى بيت النار ومات محترقا.
سيرة سياسية
ومن المشاهد أيضا ما جرى في باب الحديد حيث كنت أعمل أجير قصاب حيث تم اغتيال الشيوعي محمد عوض (أبو سلام) في محله الذي يبيع الحبال فيه وكان يفصل بينه وبين محل القصابة الذي أعمل فيه، محلان فقط. كما شاهدت تفجير براكة لبيع الشاي والقهوة في ساحة بانقوسا حيث تنطلق الباصات لبعض قرى ريف حلب. بعد دخول الوحدات الخاصة المدينة استيقظت صباحا للخروج من المنزل لأجد جنديا بلباس مرقط يضع وردة حمراء على رشاش عيار 500، صرخ في وجهي (سكر الباب يا ابن الكلب).
خلال التفتيش، كان خوف أبي من اغتصاب أمي وخوف أمي من أن يأخذوا أبي ولا سيما أنه متدين بينما كانت أسئلة عناصر الدورية تستهدفنا نحن الصغار بالسؤال عن مخبأ الأسلحة أو من يقيم عندنا من الزوار. كان الليل مسكونا بأصوات الرصاص والقنابل وصراخ وبكاء بعض الجيران الذين تأخروا عن الوصول لمنازلهم بعد سريان حظر التجوال أو اشتبه بهم أحد الجنود أو أراد آخر أن “يسلي” نفسه.
قبل الأحداث، كانت العائلات تحث شبابها ومراهقيها على الصلاة والالتزام الديني. أما بعدها، فأصبحت الصلاة في المسجد أو إطلاق اللحية من المصائب التي تقنعك العائلة كلها بضرورة الإقلاع عنها.
في تتمة الحوار مع خالد عقيل، نجل الراحل سليم عقيل، نقيب محامي حلب وعضو مجلس الشعب في بداية عهد الرئيس حافظ الأسد وأيضاً المعتقل السياسي لمدة تسع سنوات، تفاصيل إضافية من ذاكرة حرب حزب البعث زمن الأسد الأب على النقابات في ثمانينات القرن الماضي.
* كم كان عدد المعتقلين من النقابيين؟
ذهبت وأخي لفرع الأمن السياسي وطلب منا الوالد أن ننقل رسالة لرئيس فرع محامي حلب أسعد كعدان باستمرار إضراب المحامين حتى يفرج عن المحامين المعتقلين تنفيذا لقرار الجمعية العامة للنقابة. تم اعتقال 11 نقابيا، ستة من المحامين وخمسة من المهندسين، والمحامون كانوا سليم عقيل، عبد المجيد منجونة، سعيد نينو، أسعد علبي، ثريا عبد الكريم وعبد الكريم عيسى، ومن المهندسين غسان نجار، عبد المجيد أبو شالة، نبيل سالم، جلال الدين خانجي وعبد الهادي أخرس.
وصباح 1/4/1980 تم ترحيلهم إلى إدارة الأمن السياسي في دمشق.
* صباح هذا اليوم أيضا دخلت الفرقة الثالثة بقيادة شفيق فياض مدينة حلب.
اقتحمت الدبابات والعربات المجنزرة حلب قادمة من طريق دمشق. في الصباح تم قسم حلب إلى قسمين، الأول المدينة القديمة تنتهي حدودها عند باب الفرج وباب أنطاكية وجادة الخندق، والنصف الثاني المناطق الحديثة من شارع بارون والسليمانية والعزيزية باتجاه شمال المدينة. بدأ الجيش مداهمة المنازل بيتاً بيتاً وكنا نسمع من حين إلى آخر صوت إطلاق الرصاص والانفجارات ونرى إحدى الدبابات وهى تسحل جثث الشهداء في شوارع حلب، استمرت المرحلة الأولى أسبوعين تقريباً وانتقل الجيش ليبدأ المداهمات في النصف الثاني.
* تم حل النقابات المهنية في 9/4/1980
نعم، وتم تعيين مكاتب ونقباء من البعثيين وحلفائهم في “الجبهة الوطنية التقدمية” وقبلها ظهر حافظ الأسد على التلفزيون وهاجم والدي وعبد المجيد منجونة دون أن يسميهما مهددا باستخدام العنف الثوري معهما قائلا: أحدهم وضعناه في إحدى الوزارات وعندما كان وزيراً كانت السلطة شرعية وعندما خرج من الوزارة أصبحت السلطة غير شرعية ويريد إسقاطها (عبد المجيد منجونة)، والآخر وضعناه في مجلس الشعب وعندما كان نائباً كانت السلطة شرعية وعندما أصبح خارج مجلس الشعب أصبحت السلطة غير شرعية ويريد إسقاطها (سليم عقيل).
* نعود للوالد، أودع ورفاقه في سجن الشيخ حسن؟
نعم، لم تجر لهم أي محاكمة، وضعوا أولا في زنزانات منفردة حوالي مائة يوم ثم تم جمعهم في مهجع واحد، وفي عام 1981 نقلوا الى سجن القلعة وبعدها في عام 1984 الى سجن عدرا.
* كيف أطلق سراحهم؟
تم إطلاق سراح نقيب المحامين صباح الركابي بعد حوالي العام، وكذلك محام من بيت برمدا، في حين تم إطلاق سراح كل المحامين الآخرين باستثناء ثلاثة عام 1987عند التحضير لمؤتمر المحامين العرب في الكويت ذلك العام، حيث تم إبلاغ أعضاء نقابة المحامين السورية أنه لن يتم قبول الوفد السوري في المؤتمر ما لم يتم الإفراج عن المحامين المعتقلين.
أفرج النظام عن المحامين باستثناء سليم عقيل وعبد المجيد منجونة وثريا عبد الكريم بسبب عدم التوقيع على طلب الإفراج من قبلهم.
* تأخر الإفراج عنهم سنتين!
نعم، تقرر انعقاد مؤتمر المحامين العرب في دمشق شهر حزيران/ يونيو 1989 وتم الاجتماع التحضيري بدمشق شهر شباط/فبراير 1989 وتم اشتراط إطلاق أي محام معتقل لعقده في دمشق. في ختام الاجتماع استقبل الأسد رئيس الاتحاد فاروق أبو عيسى والنقباء العرب الحاضرين، ومنهم نقيب محامي مصر أحمد الخواجة الذي طالب الأسد بالإفراج عن المحامين فردّ الأسد عليه: لماذا تدافع عن عقيل وهو عميل كامب ديفيد! أجاب الخواجة أنه يعرف عقيل جيدا وهو مختلف معه سياسيا، ولكنه ليس عميلا لكامب ديفيد وقد هاجم السادات من مصر لعقده تلك الاتفاقية في مؤتمر لنقابة المحامين بمصر.
هنا تدخل نقيب سورية نور الدين حبال ليكسر التوتر بالجلسة قائلاً: إنه صهرهم يا سيادة الرئيس.
هنا تدخل فاروق أبو عيسى وقال موجهاً كلامه للأسد: أتاك رجل زنجي أميركي (القس جيسي جاكسون) وتوسط لديك للإفراج عن الطيار الأميركي التي سقطت طائرته فوق لبنان وهو يقصف شعبنا العربي وتم أسره واستجبت له وأطلقت سراحه، والآن يأتيك رجل زنجي عربي من جنوب النوبة يطلب منك الإفراج عن مواطن عربي سوري والذي اختلف معك سياسياً. وبالفعل تم الافراج عنهم يوم 30/4/1989.
* تورد في كتابك “إرث ثورة” شهادة عن مجزرة المشارقة، نريد التفاصيل إن سمحت.
في أول أيام عيد الفطر عام 1980 وعند الساعة الثانية ظهراً تقريباً كانت مجموعة الحراسة من الوحدات الخاصة ترابط أمام دائرة الامتحانات خلف ثانوية المأمون وتستعد لتبديل الوردية. بدأ إطلاق الرصاص من جهة مقبرة هنانو باتجاه هذه المجموعة وقتل اثنين منهم، خلال دقائق حضر هاشم معلا قائد الكتيبة إلى الموقع واعتلى سطح الامتحانات وهو يتحدث بجهاز اللاسلكي، صادف مرور مواطن على دراجة فأشار معلا لجنوده فأوقفوه وأحضروه إلى سطح مبنى الامتحانات، وببرودة أعصاب أطلق رصاصة على رأس المسكين وأرداه قتيلاً ورماه من السطح إلى الشارع، في هذه الأثناء وصلت مجموعة من الوحدات الخاصة وبدأ هاشم معلا بإعطاء أوامره لقادة المجموعة، اتجه الجنود إلى نهاية مقبرة هنانو ودخلوا إلى حي المشارقة من الشارع الذي يفصل المقبرة ومحطة بترول وبدأوا بإخراج سكان الحي من بيوتهم واقتادوهم إلى أمام بناء الامتحانات حيث تواجد معلا، كان عددهم يقارب الثمانين مواطنا، وهنا أعطى أوامره ببدء فاصل الضرب والتعذيب، ألقوا هؤلاء الأبرياء على أرض الشارع وبدأوا بضربهم بالكابلات والأحزمة وأخمص البنادق والركل والدوس على رؤوسهم وبطونهم طوال ساعتين من الزمن، لم يشفِ غليل هاشم معلا فاصل التعذيب للمواطنين الأبرياء فأعطى أوامره لمجموعة منتقاة من أفراد الوحدات الخاصة عددهم حوالي 12 عنصرا فقاموا باقتياد الأبرياء إلى خلف مقبرة هنانو في الساحة الصغيرة وجمعوهم وأحاطوا بهم على شكل دائرة بدأوا بإطلاق النار وأخذ الشهداء بالتساقط والأتربة تتصاعد وعم الغبار المكان، بعد ذلك بدأ الدوس على الجثث وإطلاق رصاص على الأحياء منهم، كان كثير من سكان الحي يشاهدون المجزرة وأخذوا بالصراخ والعويل. بدأ الجنود بالانسحاب باتجاه مبنى الامتحانات، وكان أحد الضحايا لا يزال حياً، زحف باتجاه سوزوكي متوقفة في أول الطريق ورمى نفسه داخلها فقد كانت تحوي صندوقا مع شادر وكان الناجي الوحيد من المجزرة. أراد أهالي حي المشارقة سحب جثث شهدائهم ولكن هاشم معلا أعطى أوامره لجنوده فعادوا إلى مسرح الجريمة وهم يطلقون النار في الهواء لترهيب الأهالي ومنعهم من استرداد أبنائهم. أحاطوا بالجثث لحين وصول شاحنات الجيش وبدأوا في رميهم فيها كما تُرمى جيف الحيوانات. انطلقت بهم إلى مقابر جماعية لم يعرف أهل حلب إلى اليوم أين تقع.
عُرف من الشهداء الدكتور عبد الرزاق عرعور المدرس بجامعة حلب، وعائلة حوري أب وسبعة إخوة كانوا يرتدون الجلابيب البيضاء كانت والدتهم أحضرتها لهم من العمرة. مكان الجريمة سُوي بالأرض وأصبح مكانه ما يعرف بمركز انطلاق الباصات، ومقبرة هنانو شُيد عليها مسجد سمي بمسجد (الرئيس الأسد). كل ذلك مصور من صديق لي يقطن قريبا من دائرة الامتحانات وكان استعار مني كاميرا سينمائية ثمانية ملم.
* أين الشريط الان؟
موجود وان شاء الله ينشر قريبا.
* يرى البعض أن ما حدث في حلب 1980 جعل المدينة تتأخر عن الانضمام للثورة عام 2011؟
أولا من يرى أننا تأخرنا في حلب فهو خاطئ، اجتمعنا في 13/4/2011، مجموعة من النشطاء عند مقبرة هنانو ونظمنا مظاهرة وطوقنا بالآلاف من الشبيحة الذين هجموا علينا بالجنازير والعصي والسلاح الأبيض، لم يكن تحرك حلب على مستوى ثقلها وكان لما حدث في 1980 تأثير كبير في ذلك. وكان النظام واعيا لذلك فهو من ناحية كان يحشد قواه في المدينة من الزعران والشبيحة ومن جهة أخرى يحاول مداراة أهل المدينة. مثلا اعتقل ابني خلال المظاهرات من قبل الأمن العسكري ووسطت الشيخ إبراهيم السلقيني والشيخ صهيب الشامي وتم الإفراج عنه.
* تعيش حالياً في غازي عنتاب؟
نعم، هي الأقرب لحلب جغرافياً ونفسياً.
* ألفت كتاباً بعنوان “من حلب الى قونية”. ألا ترى أنه كان من الأنسب لو عنونته من قونية إلى حلب، بما أن المولوية انتقلت من قونية لحلب عندما حظرت في تركيا؟
ملاحظتك لطيفة، لكني متحيز لحلب.
* أنت في صدد تأليف كتاب عن عمك الإعلامي الراحل نذير عقيل؟
نعم، كان نذير من جيلي وكان ناصريا ترك سورية ولجأ إلى مصر بعد ما سمي ثورة 8 آذار 1963، وكان له برامج مشهورة في إذاعة صوت العرب وعاد لسورية عام 1971.