ينظر إلى النقد على أنه قول في المكتوب تحليلاً وتأويلاً واختلافاً وإضافة، وقد اختصر النقاد كل هذا الآن بمفهوم القراءة النقدية، سواء كانت قراءة مكتوبة أو قراءة شفاهية والتي تظل محدودة بقارئها.
أما النقد المكتوب فهو نص على نص، وأغلب القراءات النقدية ثراءً تلك التي تخرج من النص المنقود بقول جديد. لكن الأمر لا يتوقف عند نقد النص الأصلي، وإنما يخلق نص الناقد ذاته نقداً من آخر، فتولد ظاهرة نقد النقد. ونقد النقد يتطلب معرفة بالنص الأصلي المنقود وبنقده. فيغتني النص الأصلي بقراءات متعددة من جراء نقد النقد. وهكذا.
ولكن لا يميز الذين يستسهلون أمر الكتابة، وسميتهم “مساكين الكتابة” بين نقد النقد والمهارشة والمشاجرة والردح العامي، وبخاصة لدى أولئك الذين لديهم روح التبعية والاستزلام لكاتب أدركته شهرة كبيرة أو صغيرة، فيشتاطون غضباً إن مس أحدهم صنمه الذي يراه فوق النقد.
ومعنى المسكين في العربية لمن لا يعلم: هو الفقير الذي ليس لديه زاد يكفيه، والبائس الذي لا يملك شيئاً، والخاضع الضعيف الذليل. ومساكين الكتابة هم قليلو الزاد في المعرفة واللغة والموهبة، والخاضع لسلطة كاتب خضوع الجاهل.
وتجربتنا مع هؤلاء مرت بمرحلتين: مرحلة ما قبل ظهور الفيسبوك والتويتر، ومرحلة ما بعد. حيث صار التطاول متاحاً له الظهور. وللإيضاح نقول: حين نُعملُ مبضع النقد الفلسفي والفكري، والشعري والأدبي عموماً في نصوص مؤلفين معلومين، ونظهر اختلافنا معهم وبعض هناتهم التي لا يعلمها الذين هم من غير أهل المعرفة والاختصاص، نواجه مشكلة ليس مع المنقود المعلوم، بل مع الأتباع المتعصبين له. وينسى هؤلاء بأن القمين بالنقد لا يكون إلا من أهل المعرفة والآدب الذي يترك أثراً على الوعي. فنحن لا نتناول العاديين بأي نقد أصلاً، وأس المشكلة مع التُبع هو التالي: حين يقرأ التُبع نقدنا لمتبوعهم، وبخاصة إذا كان نقدنا قاسياً فإنهم يتساءلون: إذا كان متبوعنا على هذا النحو والخلو من القيمة المعرفية والجمالية، فما حال وعينا نحن التبع المشدوهين بآثاره؟
فإذا كان صاحب الشأن لا شأن كبيراً له عند البرقاوي، فإن التبع لمن لا شأن له “ليسوا عند الله من أحد”، على قول أبي نواس في ذم الأعاريب. ولأنهم عُزّل من الأدوات المنهجية والمعرفية، ولأن أكثرهم لا يعرف من المنقود إلا اسمه وشهرته، فتراهم يتوسلون
الشجار، كل أنواع الشجار، طريقة في الرد، وتعويضاً عن جهلهم.
والوجه الآخر من المشكلة يكمن في توهم بعض من أدركتهم حرفة الكتابة دون موهبة، وما كانوا يوماً أهلاً لها، بأنهم في الرد على نصنا النقدي يتحولون إلى أنداد لنا، وانبراء بعضهم لسبنا باستخدام حوش الكلام. وهؤلاء، “مساكين الكتابة”، الذين يتوسلون الحضور عن هذا الطريق، فلا نذكرهم لولا وجود من ينبهنا إليهم.
وما زاد الطين بلة، اعتقاد، من يسميهم الفيسبوك، بالأصدقاء من قطيع المتبوع المنقود، والذين لم نرَ وجوههم يوماً، ولَم نلتق بهم أبداً، بأنهم صاروا جزءاً من حياتنا، متوهمين بأن خاطرنا سيتكدر إن هم غضبوا منا، وهم أقل من أن يكونوا أهلاً لسخريتنا. أما المنافقون الفقراء بالقيم الأخلاقية الرفيعة، فانكشافهم يسرنا ولا يؤلمنا.
وراح بعض ممن يدعي معرفتنا يتحدث عن ترفعنا، واستخدامنا نون الفاعل، أسلوباً في التعبير عما يخصنا. وبأننا نسكن برجنا العاجي الفلسفي، ونأنف النزول منه، ناسين بأن نون الفاعل في العربية تخفف من خيلاء تاء الفاعل. أما إقامتنا في برجنا الفلسفي العالي، فهذا ما لا ننكره. فنحن نخاطب الناس من هذا البرج، وندعوهم للصعود إلينا، ونستخدم في بعض الأحايين لغة تساعدهم على الصعود، ولن ننزل إليهم أبداً، فمن شاء فليصعد، ومن شاء فليبق في الوادي.
ولنا قلب محب للإنسان، خالٍ من الغيرة والحسد والإيذاء، معشري الروح والتعاطف والإيثار. فأنا كما قلت لحبيبتي يوماً: “ذئب أنا،
أحمد برقاوي لكني وسحر الروح في عينيك رقيق مثل حزن الكبرياء”.