ريما بالي – الناس نيوز ::
الخامس عشر من مايو/أيار، اليوم الذي اختير لإحياء ذكرى نكبة فلسطين، يطل للمرة الرابعة والسبعين على العالم.
النكبة الفلسطينية، تمر اليوم، فتحيي أمتها/أمها العربية بخجل، وتعانق بتعاطف وأسى وبعض الغيرة أخواتها الصغيرات: النكبة اللبنانية، والعراقية، والسورية و… ، فهي لم تعد الطفل الوحيد المدلل للمأساة العربية، بعد أن أنجبت تلك المرأة الخصبة الولود لاحقاً الكثير من النكبات، الواحدة تلو الأخرى، جراء عمليات اغتصاب تعرضت لها أو زيجات فاشلة تورطت بها بسذاجة وغباء، أو علاقات عابرة طائشة وغير شرعية.
ذكرى النكبة التي لم تبق وحيدة، تزامنت هذا العام مع اغتيال الصحفية المراسلة الفلسطينية شيرين أبو عاقلة برصاص القوات الاسرائيلية المحتلة، الحادثة التي وحدتنا لساعات في صدمةٍ واحدة وحزن مشترك، لتفرقنا بعد قليل في حوار ممجوج حول تحليل أو تحريم الترحم على روحها من قبل المسلمين، باعتبارها من الديانة المسيحية، الأمر الذي لن أتوقف عنده وإن كنت أعتبره نكبة كبرى أخرى أنجبتها تلك الأم العاهرة فابتلينا بها.
اختار الفلسطينيون يوم 15 مايو/أيار كذكرى للنكبة، لأنه تلا اليوم الذي أُعلنت فيه دولة إسرائيل المستقلة على الأراضي الفلسطينية، علماً أن المأساة كانت قد بدأت قبل ذلك التاريخ عندما بدأ الإسرائيليون بتهجير الأهالي من بيوتهم والاعتداء عليهم وتشريدهم وسرقة أراضيهم، تحت أنظار العالم أجمع وبرعاية ودعم من معظم الدول الغربية.
منذ ذلك اليوم الذي مر عليه أربعة وسبعون عاماً، والفلسطينيون يحلمون بالعودة إلى بيوتهم، مضت السنون وهم يغنون ونغني معهم رائعة فيروز التي أطلقتها عام 1956 من كلمات الأخوين رحباني:
“سنرجع يوماً الى حينا ونغرق في دافئات المنى
سنرجع مهما يمر الزمان وتنأى المسافات ما بيننا
فيا قلب مهلاً ولا ترتم على درب عودتنا موهنا
يعز علينا غداً أن تعود رفوف الطيور ونحن هنا
سنرجع خبرني العندليب غداة التقينا على منحنى
بأن البلابل لما تزل هناك تعيش بأشعارنا
فيا قلب كم شردتنا رياح تعال سنرجع هيا بنا”
أربعة وسبعون عاماً، ولم يعد المطرودون إلى حيّهم، بل حذا حذوهم بقية إخوتهم العرب، حين صاروا يتهافتون على مغادرة أحيائهم بعد النكبات المتلاحقة التي حلت في بلدانهم:
النكبة اللبنانية، التي نثرت اللبنانيين في أرجاء العالم، كمجموعة من العصافير أصاب شجرتهم حجر طفل شرير، طاروا إلى بلدان الغربة واستحدثوا حيوات جديدة وما فتئوا يغنون في احتفالاتهم وحفلاتهم، أغنية زكي ناصيف:
“راجع راجع يتعمر راجع لبنان… راجع متحلي وأخضر أكتر ما كان
رجعنا الساعد بالساعد مشبوك منيح
ومشينا مشية مارد يضحك للريح
طلتنا الكرم الواعد بعدو تلاويح
يبشر بالصيف الوارد موسم حرزان
هلا يابا وهلا يابا راجع لبنان”.
أكثر من أربعين عاماً الآن، والمارد اللبناني لم يرجع، وموسم الصيف الحرزان، سرقته غربان الظلام في ضوء النهار، وهدمت ما كان معمراً في لبنان.
ثم.. النكبة العراقية، التي نافست أخواتها ضراوة وتدميراً وتشريداً، حين صدّر العراقيون أولادهم إلى كل أصقاع الكرة الأرضية، لاجئين موجوعين، حاملين جرح الوطن ودفء المدن في وجدانهم، وحالمين بعودة شاعرية للحب في بلادهم التي صَدَمتْ من عاد منهم إليها، كما غنى كاظم الساهر من كلمات الشاعر كريم العراقي:
مدينة الحب أمشي في شوارعكِ
وأنا أرى الحب محمولاً بأكفانِ
لا تصدموني، أهذا الكهف منزلنا؟
وهو الذي كان منية كل إنسانِ
أهذه النخلة الجرباءُ نخلتنا
وهي التي أمس من أشجار رضوانِ؟
أهذه الأسقفُ النيران تحرسنا
يا سادة البيتِ هل ضيعت عنواني؟
هل أنتِ أمي وهل أنتَ أبي وأنا
أنا ابنُ بيتي أم أنّ الهمَّ أعماني؟
يعلو الوجوهَ عذاب لا شبيه له
وفي الدواخل يغلي ألفُ بركانِ
قلوبُ أهلي وأحبابي غدت حجراً
أأنا على الأرض أم في كوكب ثانِ؟
وأسمعها.. تقهقه بصفاقة تسخر من كل ما سبقها، تلك النكبة العمياء اللئيمة التي حلت بالأراضي السورية.. تصرخ بوحشية: أنا هنا، أنا النكبة التي دمرت الحجر وأنهكت البشر ومزقت التاريخ، وغيّرت وجه المدن وأرسلت الملايين إلى ما وراء الشمس، أنا الكارثة التي اشتعلت ولم تخمد نيرانها بعد وإن غيرت ألوانها.
هل تصمت تلك النكبة قليلاً إن هرب السوريون من صراخها إلى بلاد بعيدة؟ هل يخفف من عمق مصابهم أن تمتموا بينهم وبين أنفسهم، وبينهم وبين أحبائهم: سنعود بعد قليل؟.. وهم يعرفون أن هذا القليل، هو كثير… كثير جداً، وقد يكون أبدياً!
ومن “سنعود بعد قليل”، المسلسل السوري الرائع الذي أبدعه رافي وهبة كتابة، والليث حجو إخراجاً، أستعير هذه الكلمات التي جاءت ضمن مقال كانت تكتبه إحدى الشخصيات:
“سيستحق ما سيحدث معه في الجزء القادم حيث سيزهر الربيع العربي في دمشق، وتُنضج ثماره نار الرشاشات والمدافع وقذائف الطائرات وجحيم السيارات المفخخة، فتطغى على حلاوة الحرية المشتهاة، مرارة دماء السوريين”.
وهل أبسط وأعمق وأكثر ايلامَا من أغنية الشارة التي تقول:
“والحنين ثقيل.. سنعود بعد قليل
لِمَ نستودع الأحباب ذكرانا؟
سنعود يا جيران جيرانا.”
نعم.. سنعود بعد قليل.. من دون أن نحدد إن كان هذا القليل أسبوعاً أو عاماً أو عقداً أو دهرا.
ولعل من أروع القصائد التي طرحت موضوع العودة أو اللا عودة، تلك التي كتبتها الشاعرة الجميلة هالا محمد، ضمن ديوانها “أعرني النافذة يا غريب”:
“انتهتِ الحربُ يا حبيبي ولم يعد أحدٌ إلى بيتهِ
حتى البيوت لمْ تَعُدْ منَ الحربْ
الطريقُ لمْ يَعرفْ طريقَ العودةِ
الأرانبُ في الحقولِ
تحتَ الأعشابِ البريّةِ التي احترقَتْ بالنابالم والكلور وغاز السارينْ
تُغمضُ عينيها أمامَ الكاميراتْ
لا تريدُ أن تتصوَّرَ.
لنْ يعرفَ العالمُ قِصَّتَنا
ماتَ الأطفالُ
…
لِمنْ تُحكى الحِكاياتْ”.
ختاماً، أعتذر من النكبة الفلسطينية، لمشاركتي غيرها من النكبات في ذكراها الأليمة، ولكن ما حيلتي والنكبة تذكر بأخرى، وما أكثر النكبات في بلادنا.. نكبات تتكاثر وتلد نُكيبات صغيرة تنثرها هنا وهناك لتُحكم الحصار من حولنا، ويتحول حلم الرجوع إلى وهم.. أو كابوس.. متى نصحو من كوابيسنا؟ متى تنتهي نكباتنا؟