شادية الأتاسي – الناس نيوز :
طوفان من الثلج الأبيض الرخو، غمر الصباح القاتم بالضوء، ذكّرني امتداد هذا البياض الغبي، بمشهد بلا أفق. دهمني هذا الشعور وأنا أنقل الـ”ريموت كونترول” بين القنوات الفضائية، أصغي للمذيعين يتحدثون بتشاؤم عن ميلاد عام جديد، وتسارع مفجع لعدوى الوباء القاتل، وأرقب كاميراتهم وقد نشطت بحماس في تصوير وإبراز كآبة ولادته في عواصم العالم، وقد تركوا الساحة لرواد الفلك والتنجيم والتنبؤات، يصولون ويجولون ويتكهنون بثقة عجيبة برؤيتهم الغيبية، لعام حافل بمزيد من المآسي والأحداث الغرائبية التي لا حدود لها. لِمَ لا؟! فالعصر اليوم هو عصر الميديا والصورة والتنبؤات العجيبة.
انسلّ العام الميلادي بصمت، بلا زينة وأضواء واحتفالات، شوارع مهجورة، ترانيم وأجراس كنائس غائمة. اختفى الجميع بلا صوت، فالتحذيرات جدية وصارمة، ابقَ وحيدا وبعيدا، لا تعانق ولا تُقبل، العالم يرزح تحت عبء حجر صحي، أرغمه عليه وباء أعمى. بدا فيه قرية صغيرة مهزومة، مجللة بالسكون والكآبة، لم تستطع كل غطرسة الإنسان الحضاري،الانتصار عليه. فبدا ضعيفا حائراً، مقموعا بالعجز، مسربلا بالعار، تلاحقه لعنة شهوة الامتلاك الجامح، وفي لحظة يتذكر بعده الإنساني، فيبكي.
هذا اليوم الثلجي طويل وممل، وهذا المد المفجع من الآلام والفجائع لا نهاية لهما، الأفضل الهروب والابتعاد عن البشر.
لكن إلى أين؟
أعددت مكاني، قهوة دافئة بنكهة قوية، كرسيّ الأثير قرب نافذة الضوء، وصوت فيروز ينسكب شجياً في عمق الروح. فتحت باب الذاكرة على مهل. أنا أيضا لي تداعياتي ورؤاي، تركت لها المدى لتسرح في فضاء حر…
أصيخ السمع إلى صوت يهمس في أذني …
اصغِ إلى الحكايات، دعيها في قلبك، دعي شذاها ينفذ إلى روحك بعمق.
هاأنذا أصغي إلى الحكايات، حكايات تسردها الجدات في ليالي البرد، تهدل كرجع أغنية حزينة، لها رائحة ودفء وروح. حكايا الأوطان، حكايات الذين سافروا بعيدا، وأولئك الذين صمدوا في أرضهم ، قصص الأنهار وتفتح الأزهار، والنحل الذي يحوم حولها ويرتشف رحيقها، حكاية السنبلة والمطر.
تأسرني نوستالجيا غامضة، عصف مباغت، انجذاب كلي إلى ألفة المكان الأول ، أتوغل في الأمكنة الخبيئة، مطوقة بما يشبه الحلم، تبدو من خلاله الوجوه الأليفة، طرية ومشاغبة، تمنح الكثيرمن الحقيقة، لخيالات عاطفية شكلت على مهل شغفي ووعيي الأول، تتقاطع مع صور كابوسية معادية، لم أستطع أن اتخلص من حضورها الطاغي في ذاكرتي ووعيي. التحدي الأول، الإحساس بالخطر، الخطى المترددة، الخيالات المبهمة، صوت الليل. والكثير من الخوف
أجل الخوف وربما الغضب …
فكثير من الطقوس والشعارات والأغاني وحتى الشعر، تحول في وعينا ونحن في مرحلة مبكرة من العمر، إلى ذاكرة وتاريخ، مثقل بخوف مبهم، لم يكن خوفاً بقدر ما كان غضباً، يتسع ويتمدد، إذ يصعب على المرء أن يبقى حيادياً إزاء إدراكه مدى رداءة، ما انغرس في وعيه المبكر، إذ أصبح يتحتم عليه، أن يدير معركة صاخبة مع ذاته، يستعير مما أصبح عليه، ومن تجاربه الصعبة، الكثير، لينجو من هذا الكيد ، ويستعيد عذوبة ما فقده.
كنا في طقوس تحية العلم الصباحية، وأقدامنا الصغيرة المقرورة برداً، تخبط الأرض مع سماع / استاعد واستارح/، نردد كلمات لا ندرك معناها، نعاني من أزمة التعرف إلى معنى هذه الطقوس الملغومة،التي تدس وتحشر في عقولنا كل صباح. المعنى الوحيد الذي استطعنا استيعابه آنذاك،هو التخويف.
العقاب كان جاهزاً وليس تلويحاً، ولم تكن عقوبة الزحف، ومشية البطة، و ضرب المسطرة على أيدينا المتجمدة من البرد، تهوي عليها كلسع النار. إلا تهديدنا الأول.
المد الثلجي الكئيب يكبر، ما زال في جعبتي الأهم، أترك فنجان القهوة الأخير، لأرشفه على مهل مع صديقتي، التي أنتظرها بشغف، تحدثني من الطرف الآخر، من دمشق، عن هموم من نوع آخر…
تشكو لي صديقتي هموم البلد، هي ليست هموماً، بقدر ما هي وجع أناس مقهورين، يعانون من الاستبداد وغياب الحرية، يعيشون في العتمة والظلام والبرد والغلاء، وطوابير الذل، من جرة الغاز ومئة ليتر المازوت، ورغيف الخبز المغشوش، مرورا بغربة الوجوه والقلوب، وتفريغ البلد القسري من وجوهها الأصلية، واستبدالها بوجوه غريبة وثقافة دخيلة، وليس انتهاء بالتسارع الوبائي الغريب، والعجز المريب، وارتفاع معدل ترمومتر الموت اليومي،والجنازات السريعة، تمضي إلى القبور دون وداع ومودعين.
هل من الممكن تحييد هذه الصور، منحها صفة اللامبالاة ؟ في مكان أنت فيه غريب ومنفي ومخذول، يسيطر عليك سؤال صعب، ماذا لو غادرنا الأحبة وفِي قلبهم حديث شوق لم يقل بعد؟
فتحت النافذة، من الواضح أن هناك نقصاً مفجعاً في توزيع العدالة، الكثير من الثلج، الكثير من الجمال، الكثير من الرخاء، يفيض به الكون هنا بأكثر مما يلزم أين أنت يا صباحات دمشق الغائرة بالحزن والغضب؟