ميديا – الناس نيوز ::

تلفزيون سوريا – محمد برو – في غمار المشهد السوري المعقّد، لا يخفى على الراصد، كشاهد أو متابع، ظاهرة من أخطر الظواهر في بعدها الإنساني والاجتماعي والحضاري، ألا وهي هجرة المسيحيين السوريين، والتي يمكن تقسيمها إلى مرحلتين: مرحلة قبل انقلاب حافظ الأسد على السلطة في سوريا، حين نشطت حركة الهجرة المكثفة في أواخر الخمسينيات وطوال الستينيات، وتوجهت بشكل رئيسي إلى لبنان وأوروبا والأميركيتين. والمرحلة الثانية، والتي بدأت في واقع الأمر منذ سبعينيات القرن المنصرم.
وبحسب أحد أهم المراجع التي تحوي بيانات دقيقة عن الأقليات والإثنيات في سوريا، الكتاب السنوي CIA World Factbook، المعروف بالعربية باسم “كتاب حقائق العالم” لوكالة الاستخبارات المركزية، فإن أعداد المسيحيين في سوريا تناقصت بمعدلات كبيرة منذ بداية السبعينيات، حيث كانت نسبتهم وقتها تتجاوز 15% حسب أرجح التقديرات، وانخفضت خلال سني حكم حافظ الأسد إلى ما دون 8%.
ومنذ تسلّم ابنه الوريث الحكم، انخفضت النسبة بين عامي 2000–2025 إلى ما دون 2%. أي أنّه خلال حكم “حامي الأقليات” حافظ الأسد ووريثه، هاجر من سوريا ما يزيد عن 85% من المسيحيين، طلبًا لحياة يتحقق فيها شرط الأمان والشروط الإنسانية التي كانت تتلاشى باطراد سريع خلال سني حكم الأسد الأب والابن.
صحيح أن غياب الظروف المناسبة لبناء عملية إحصائية دقيقة في سوريا يعيق بناء تصوّرات موضوعية، إلا أنّ وجود العديد من المؤسسات الكنسية المهتمة والمطّلعة على تفاصيل كثيرة في هذا الشأن يشكّل بديلًا تقريبيًا يخرج المسألة من دائرة العَماء، ليُصار إلى بحثها والاهتمام بها لأهميتها في الإبقاء على ما يجعل المجتمع السوري مجتمعًا غنيًا بتنوعه. في سوريا اليوم يتراوح عدد المسيحيين المتبقّين بين 300,000 و500,000 شخص تقريبًا، معظمهم يعيش في دمشق وحلب. على سبيل المثال، تراجع الوجود المسيحي في حلب من نحو 500 ألف عام 2011 إلى حدود 25 ألفًا أو 27 ألفًا فقط، حسب الإندبندنت العربية.
ولنقارن هذا بسوريا التي كانت تُلقب بـ “جنة المسيحيين” في الشرق الأوسط بسبب تنوعها الديني وتسامحها النسبي تحت الحكم العثماني والانتداب الفرنسي، حيث بلغت نسبة المسيحيين نحو 25% في أواخر القرن التاسع عشر.
تُعد ظاهرة هجرة المسيحيين السوريين أحد أشكال إفراغ الشرق من المكوّن الحضاري الأقدم وجودًا في هذه الأرض، هذا المكوّن العريق الذي أثّر وأغنى وصبغ بثقافته كثيراً ممن أتى بعده وساكنه وعاش معه عقودًا من التعايش والسلام. وتدرك غالبيتنا كسوريين أن رحيل هذا المكوّن الأصيل من أرضه لا يفقر المجتمع المسيحي فقط، بل يتعدّاه إلى تهديد الهوية السورية، كما يهدد جسور التواصل الحضاري مع العالم، وليس خافيًا ما للمسيحيين من دور كبير في مدّ جسور الوساطة الحضارية والثقافية والتجارية مع الغرب.
عند دراسة هذه الهجرات التي تصاعدت أعدادها خلال العقدين الأخيرين بشكل متسارع وكبير، سنجد أن ثمة عوامل أمنية وسياسية واقتصادية وخارجية أيضًا أسهمت إلى حدّ كبير في تنامي هذه الظاهرة الخطيرة. في مقدمتها طغيان حالة الصراع وعدم الاستقرار.
ومع بدايات الثورة السورية وتغوّل نظام الأسد في تدمير البنية التحتية السورية فقد كثيرون إحساسهم بالأمان في ظل هذه الظروف، الأمر الذي دفع بكل مستطيع للهجرة أن يركب أقرب وأسرع قارب للنجاة بحياته وحياة أسرته.
الأمر الثاني: صعود التنظيمات المتطرفة وحجم الفلتان الأمني الهائل الذي أنتج طبقة من شذّاذ الآفاق اتخذوا من سهولة انتشار السلاح في زمن الثورة سلّمًا لممارسة الجريمة بأشكالها الرخيصة. وقد ثبت أن هؤلاء الشذاذ لا يمكن السيطرة عليهم ولا ضبطهم، وصار بإمكان عشرة صعاليك منهم تشكيل راية واسم فصيل يعيث في الأرض فسادًا.
وقد أفاد نظام بشار الأسد من هذه الظواهر العنفية ليوصل رسالة إلى المجتمع الدولي أن التطرف وتدهور الأوضاع الأمنية مرهونان بضعف حكمه، وعلى من يعارضون هذا التدهور أو يضر بمصالحهم أن يوفروا الغطاء اللازم لاستمرار حكمه.
ومن المؤسف والمخزي أن كثيراً من الدول لبّت مطالب الأسد، وحمته من الانهيار لسنوات كانت كافية لتدمير بنية المجتمع السوري، والدفع بملايين السوريين للهجرة نجاةً بأرواحهم.
إلى جانب هذه العوامل الجوهرية، هناك عوامل أقل أهمية، منها على سبيل المثال: تدنّي نسبة الإنجاب في الأوساط المسيحية عامة، إضافة إلى بعض التسهيلات أو التشجيع من مؤسسات كنسية أوروبية جعلت من هجرة المسيحيين السوريين أقل صعوبة من سواهم، ووجود روابط قرابية أسست حضورها في المدن الأوروبية منذ أواسط القرن الماضي، الأمر الذي أسهم إلى حدّ كبير في تعزيز فرص الهجرة تلك.
كذلك وجود قوانين تجعل أكثرية المسيحيين يشعرون أنهم مصنفون ـ حسب تلك القوانين ـ كمواطنين من الدرجة الثانية، منها على سبيل المثال أن يكون دين رئيس الدولة هو الإسلام. وبالرغم من أن الأكثرية الكبرى في سوريا من المسلمين، ومن المرجّح أن يكون رئيس الدولة مسلمًا لو تُرك الأمر من دون تقييد وتم الاحتكام لصندوق الانتخابات، الذي لم يكن موجودًا أصلًا؛ كما أن الأمر لم يحتج لسنّ قانون يحظر على المسلمين السنة الوصول إلى رئاسة الدولة، لكنه في واقع الأمر كان محظورًا على كل إنسان ـ مهما كانت هويته ـ سوى عائلة الأسد أن يفكر مجرد تفكير بهذا “السر المقدّس”: “أن يستمر توريث حكم سوريا في عائلة الأسد فقط”.
وعلى الرغم من ذلك، فإن وجود هذا النص في الدستور السوري قلل من الإحساس بالمواطنة، الأمر الذي شرخ رابطة الانتماء لدى طوائف عديدة، منها المسيحيون.
هجرة المسيحيين من سوريا ليست مجرد إحصائية تجلب الأسى؛ بل هي فقدان لتراث حضاري يعود إلى آلاف السنين، وتهديد للتنوع الثقافي في المنطقة التي طالما عاشها واغتنت به.
ورغم التحديات، يظل المتبقون رمزًا للصمود، ويعتمد استقرار مستقبلهم على جهود الدولة السورية في تعزيز التسامح والاستقرار. قضية هجرة مسيحيي الشرق ليست مقتصرة على سوريا فقط، بل تشمل العراق ولبنان ومصر، الأمر الذي ينذر بخلوّ الشرق عامة من المسيحيين، ما يمكن أن تكون له تداعيات غير حميدة على جمهوريات اللون الواحد في المنظور القريب. يبقى مستقبل وجود المسيحيين السوريين في وطنهم، وإمكانية عودة من هاجر منهم ـ بالرغم من صعوبته الشديدة ـ مرهونًا بتحقق الاستقرار السياسي، والعدالة الاجتماعية، والمواطنة الكاملة التي تكفل جميع الحقوق في الحرية والكرامة لجميع المواطنين من دون أدنى تمييز. ومن دون تحقق هذا المطلب العسير في هذه المرحلة سيبقى الوطن السوري ينزف أبناءه.

الأكثر شعبية

هجرة المسيحيين السوريين بين التفكك الوجودي وتحديات البقاء…

الحكومة الأسترالية تبدأ خطوات “تعليق” العقوبات على سوريا…


