في اللحظة التي غادر فيها الرئيس الأمريكي السابق ( الجمهوري ) دونالد ترامب البيت الأبيض، بدأت إيران تصعيداً غير مسبوق ضد المصالح الأمريكية وحلفائها في أكثر من مكان وعلى أكثر من جبهة، وصل إلى ما يشبه التعامل بالصدمات الاستباقية ضد إدارة الرئيس الأمريكي الجديد ( الديمقراطي) جو بايدن، بهدف شلّها وجرها راكعة إلى الملعب الإيراني؛ والبرهان على علو كعب إيران في عدد من الملفات مثار الجدل، وكأن الإيرانيين ضمنوا الإدارة الأمريكية الجديدة إلى جانبهم، وهي التي جاءت بعد أُخرى قوية عدت عليهم أنفاسهم وأذاقتهم الويلات، فبدؤوا سلسلة من أعمال الشغب تصوروا بأنها ستؤثر على الإدارة الأمريكية، وستدفعها إلى حسم قرارها في اتخاذ الدبلوماسية وسيلةً وحيدة للتعامل مع إيران.
فقد استغلت القيادة الإيرانية الانفتاح الذي أظهرته الإدارة الأمريكية الجديدة، وما أعلنته من مواقف متعارضة مع سياسات إدارة ترامب، سواء إبان الحملات الانتخابية الرئاسية أو في فترة استلام السلطة منه بعد خسارته الانتخابات، والتي تتحول خلالها الرئاسة الأمريكية إلى ما يُصطلح بتسميته البطة العرجاء، بسبب عدم اتخاذها قرارات حاسمة حتى في القضايا الملحّة؛ كما فسرت القيادة الإيرانية ضعفاً؛ ما أبدته تلك الإدارة من رغبة في العودة إلى الاتفاق النووي بعد إجراء مفاوضات بشأنه، وتلميحاتها إلى رفع العقوبات عن إيران، وكذلك التهافت الأوروبي عليها في الملف النووي، فأبدت رفضاً لإعادة بحث الاتفاق النووي وأعلنت عن زيادة تخصيب اليورانيوم، وصعّدت على جبهة اليمن ، حيث أخذ حليفها الحوثي يطلق الطيارات المسيرة (العشوائية) بشكل يومي باتجاه الأراضي السعودية، أصابت إحداها طائرة مدنية في مطار أبها، ثم كانت القشة التي كسرت ظهر الصبر الأمريكي، هو قصف الميليشيا العراقية التابعة لها السفارة الأمريكية في بغداد، ولم يكن هذا التصرف هو ختام الاختبارات الإيرانية للصبر الأمريكي.
قبل ذلك، وخاصةً في الأسابيع الأخيرة من رئاسة ترامب، عملت القيادة الإيرانية وفق مبدأ سد الذرائع؛ وأعلنت صراحةً عن تفعيل نهج (التقية) واعتمدته سلاحاً لمواجهة سياسات الرئيس السابق، فأحنت رأسها لعاصفة تصريحاته مرتفعة السقف، وعملت كل ما من شأنه امتصاص آثار ضربات “الطيران المجهول ” على مواقع ميليشياتها في غير مكان، ورغم أن سياسات الرئيس ترامب وضعتها في عنق الزجاجة، بحيث أصبحت تئن تحت قسوة العقوبات اليومية المتلاحقة عليها، والتي أدت إلى تحجيمها وإظهار مدى انكشافها، إلا أن إيران اختارت الإعلام سلاحاً للرد ، ولم تلجأ إلى اللعب بالنار، رغم طبول الحرب التي كانت تقرع من حولها، هذا إلى لحظة رحيل ترامب عن الرئاسة الأمريكية، والتي ظنتها بداية للتحرر من القيود التي كبّلَت نفسها بها مرغمة، خاصةً بسبب ما بدا وكأنه جفاء بين الأمريكيين وحلفائهم التقليديين في المنطقة.
فاجأت الضربة الجوية الأمريكية ، قبل أيام ، على مواقع ميليشيات عراقية ( شيعية مدعومة من إيران ) في منطقة البوكمال السورية ، وأيقظتهم من حلم لم يدم طويلاً، ظنوا خلاله بأنهم نجحوا في طي صفحة ترامب، وبدؤوا بالسير على طريق الشفاء من داء الترامبية الذي أنهكهم، وعادوا إلى استكمال سيرتهم الأولى التي بدؤوها منذ عهد الرئيس الأسبق أوباما. لقد شكَّلت العملية العسكرية الأمريكية تلك ، والتي تزامنت مع اتصال هاتفي بين بايدن والملك السعودي سلمان بن عبد العزيز؛ رسالة أولى مزدوجة من إدارة الرئيس بايدن للقيادة الإيرانية؛ لتذكيرها بالحليف التقليدي الأمريكي في المنطقة، ودعوة لتصحيح فكرتها التي شكلتها عنها طوال الفترة الماضية، ومفادها أنكم أخطأتم فهمنا!
حسين جلبي