عمر قدور – الناس نيوز ::
أتوقع أنكم فعلتم ذلك قبل أكثر من أسبوعين واحتفيتم بذكرى موتي، أن البعض منكم شتمني، والبعض الآخر لعن روحي. في الجهة الأخرى، هناك كثر تحسّروا عليّ، تمنّوا لو أنني حيّ لأنقذهم مما هم فيه. والبعض منهم من يأسه ربما نسب لي قدرات خارقة، فخاطبني كي أنهض من نومي الأبدي، وأنهض بشعبي البائس.
كم يطيب لي هذا! فأنا حاضر جداً بينكم بعد اثنين وعشرين عاماً من رحيلي عنكم، حاضر في نفوسكم، وحاضر في جدالاتكم. حاضر في ذكريات البعض منكم عن الزمن الجميل لما كنت حياً، وحاضر في ذكريات الشقاء المقابلة لدى البعض الآخر. هنا وهناك، أرى نفسي معتبراً، وتُنسب لي صفات استثنائية، من الدهاء والخبث والوحشية، أو من الحنكة والحكمة والبصيرة النافذة.
أليس هذا معنى الخلود؟ أن أكون ماثلاً في أذهانكم بقوة حتى الآن؟ أليس لهذا معنى عظيم وأنتم تخفقون في التخلص مني رغم سعيكم إلى ذلك؟ سأبوح لكم بسرّ: حتى وريثي لطالما تمنى التخلص مني. أنا لا أخبركم بتكهناتٍ، بل بما حدث حقاً. تخيلوا أنه في بداية حكمه، وهو يستقبل وفوداً تهنئه، راح يتحدث عن زمني مسمّياً إياه “العهد البائد”! .
لست مستاء من جحوده، فهذا هو طبعه الذي أعرفه. أحياناً تخطر لي فكرة جهنمية، أنني ما كنت لأجد أفضل منه كي أعاقبكم على موتي، ولا أفضل منه كي يتحسّر من يحبونني على زمني. حقاً، هل هناك أفضل منه كي أُلعن، وكي أبدو بالمقارنة عظيماً؟ وهل هناك أفضل منه لي كلما سعى، وفشل، وهو يحاول التفوق عليّ؟ على كل حال، هذه سيرة تستحق وقفة منفصلة أخرى، لنعُدْ إلى ذكرى موتي.
أدهشني هذه السنة انتباهكم إلى أنني متّ في تاريخ مطابق لتاريخ البيان 66، في العاشر من يونيو/حزيران 1967، البيان الذي أعلنتُ فيه سقوط القنيطرة بصفتي وزيراً للدفاع، قبل أن تصل إليها القوات الإسرائيلية. بل من المرجح أن تلك القوات سارعت إلى استغلال الانسحاب بعد إذاعة البيان، وكان ضباطها الكبار بين مصدّق وغير مصدّق أنني أمرت بإخلائها من دون قتال. أتوقع أنهم ذُهلوا عندما تأكدوا من صحة البيان، وأنهم قالوا لأنفسهم: هذا رجل صادق نزيه، من المريح التعامل معه.
أحياناً كنت أقول لنفسي أنني تسرّعت بذلك البيان، وأحياناً أقول لنفسي أنها كانت لحظة السعد لي. دعكم من التكهنات، سأحدّثكم عن سوء الفهم، وكيف قد يكون نعمة لصاحبه من دون أن يحتسب. كنا جميعاً، في القيادة، قد تبلغنا بأن الجيش الإسرائيلي سيصل القنيطرة، ولن يتقدّم أكثر منها، مع التحذير من أن مقاومته ستكون خاسرة، ومن الأفضل لنا الانسحاب.
تولى الرفاق السوفييت نقل الرسالة، وأصرت غالبية الرفاق في قيادة الحزب والدولة على المقاومة بشرف، بينما كنت أشرح لهم واقع الجيش الذي لا يعرفونه مثلي. كان يمكن لنا المقاومة، أما النجاح فليس مضموناً. وبما أنهم لن يتقدموا إلى دمشق، وسيكتفون بمساحات قرروا سلفاً الاكتفاء بها، فلماذا ندخل في مواجهة قد تدمّر الجيش الذي من المؤكد أننا سنحتاج إليه في الداخل؟ .
سوء الفهم حدث مع القول إن الجيش الإسرائيلي سيتوقف عند القنيطرة، فقد فهمتُ من الرسالة أنهم يريدون السيطرة عليها. لاحقاً، عرفت أن المقصود هو وصولهم إلى مشارف القنيطرة، وأنهم لم يكونوا ينوون الدخول إليها. كنت كمن قدّم هدية ثمينة لإسرائيل من دون أن يدري. ورغم أنها كانت ضربة حظ موفقة جداً، إلا أنني سأحمل عار البيان. بسبب ذلك العار، كان كل همي استعادتها في مفاوضات فك الاشتباك بعد حرب 1973، فما أُخذ بالخطأ ينبغي إعادته، ألا ينبغي مقابلة النزاهة بمثلها؟
سأحكي لكم الآن كيف يمكن إخفاء فيل عن الأعين! الأمر بسيط جداً جداً، لا داعي لإخفاء الفيل، يكفي أن تجعل كلباً “على سبيل المثال” يمشي إلى جانبه من الجهة المخفية عن الأعين. هذه الأخيرة ستتسع حدقاتها لمعرفة ما الذي يمشي خلف الفيل، وفي هذا الوقت لن تنتبه إلى الفيل نفسه!
هي كما ترون قصة بسيطة ذات مغزى، وتحدث دائماً. بل هي تحدث كثيراً معكم، إذ لا ترون الفيل وأنتم تتلصصون على ما هو خلفه. ربما تسرّعت، وكان عليّ استخدام الدب بدل الفيل، لأن هذا أقرب لما أريد قوله، فأنتم طوال الوقت تتكهنون عن علاقاتي بالغرب، وعن اتصالاتي بإسرائيل عبره، وتنسون الرفاق السوفييت، تنسون أنهم أول مَن اعترف اعترافاً تاماً بإسرائيل.
سأقول لكم شيئاً آخر: لم يكن الرفاق في موسكو راضين عن الرفاق في دمشق، لا بأس في أن أستخدم كلمة “رفاق” للسخرية منهم هنا وهناك. المهم أن السوفييت لم يكونوا مرتاحين إلى الرفاق في حركة 23 فبراير/شباط، وقد راحوا يتأثرون بالثورة الثقافية وبالماوية عموماً، حتى صار البعض منهم يتشبه بملبسه بماو تسي تونغ. لذا أعتقد أن السوفييت عندما رأوا فهمي لرسالتهم المنقولة من إسرائيل، وتنفيذي مضمونها، قالوا أيضاً: هذا أفضل لنا من رفاقه المغامرين المبدئيين، والذين كان البعض منهم قد سافر إلى الجزائر للقتال ضد الفرنسيين.
كم كنت أضحك في سري، عندما صرت رئيساً، وأنا أتحدث عن المواقف المبدئية، فهذه أكثر سلعة رابحة إذا بقيت في إطار الكلام فحسب، وأفضل ما يمكن فعله أن تقول موقفاً ثابتاً، لا تتزحزح عنه، ولا تفعل شيئاً على الإطلاق من أجله. ما يخيف حقاً هم المبدئيون المستعدون للإقدام على كل ما يمكن فعله من أجل مبادئهم، لست واحداً من هؤلاء وإن كنت قد شغّلتُ البعض منهم تحت شعار المقاومة. المميز بينهم كان عدواً لي، وكنت آخر من قابله وتحدّث إليه. كنت أريد عن قرب رؤية وفهم ذلك الشخص الذي خطط لعملية “مدرسة المدفعية” واستطاع النجاة، لكنه أبى إلا أن يعود لمواصلة حربه الخاسرة. بعد لقائي به، كان ينبغي أن يختفي وأن يبقى مصيره مجهولاً إلى الأبد.
ربما لا نقدّر دائماً ما هو نافع لنا ونحن في خضمه، هكذا كان حالي عندما وقعت تلك المجزرة والأحداث اللاحقة عليها، كنت خائفاً من تفاقمها قبل أن تودي بي. القدر أتى بتلك الشرارة في شهر يونيو/حزيران أيضاً، وكأنني على موعد مع هذا الشهر! في البداية شعرت بالرعب، وأنا أتذكر كيف أسقط الإسلاميون شاه إيران قبل شهور قليلة، ثم استبعدت المقارنة بين أولئك وهؤلاء، وقلت لنفسي إنها فرصتي لأفلت الوحوش التي كنت أربيها في انتظار مثل هذا اليوم.
سأفاجئكم بأمر أخير، أحب هذا الشهر رغم موتي فيه، أحب شتائمكم وتكهناتكم ومبالغاتكم كلما تذكرتموني فيه. أستمتع حتى بما تنسبونه لي افتراءً، فهو يذكّرني بمدائح نلتها وأنا أعرف أنني لا أستحقها، أو أعرف نفاق أصحابها. سيكون صعباً عليّ الانتظار حتى يونيو/حزيران التالي لأستمتع باحتفالاتكم مرة أخرى. أقول لنفسي: كم سيكون الانتظار شاقاً لو لم يكن لي وريث يدفعكم “خلال سنة مقبلة” إلى تذكّري والتحسر على زمني، أو إلى شتمي ولعن روحي؟