فارس الذهبي – كاتب سوري – الناس نيوز ::
بُني النظام العالمي الجديد، في إحدى قواعده على صيغة احترام سيادة الدول، وهو ذات المبدأ الذي تنادي به الدول اليوم ونسمعه في نشرات الأخبار في أيامنا هذه، انطلق هذا المبدأ مع توقيع اتفاقية “وستفاليا” في ألمانيا 1648 بين الأطراف الأوربية المتناحرة التي أنهكتها حروب الثلاثين عاماً ودمرت أوروبا بشكل شبه كامل، استمر تأثير هذه الاتفاقية بالاتساع و الازدياد حتى شمل معظم أراضي أوروبا والعالم، بعد أن تبنته الأمم المتحدة إبان تأسيسها..
في خضم هذه القرون الطويلة كان أفدح انتهاك لها هو ما حصل في نهاية ثلاثينات القرن العشرين على يد ألمانيا واليابان، حيث قرر البلدان أن التوسع الجغرافي سيشمل حصول البلد الأقوى عسكرياً على أي أراضٍ يدعي أن عليها سكاناً من أصول ألمانية او آرية أو يابانية في دول ليست نامية.. وعليه بدأ هتلر بتوسعه الذي لم يعجب مطلقاً دول التحالف: فرنسا وبريطانيا و الولايات المتحدة..
فاندلعت الحرب العالمية الثانية، كواحدة من أفظع حروب التاريخ البشري، مخلفةً زهاء 60 مليون قتيلاً، عادت الحياة بعدها للاستقرار بهدوء بما يشمل مبدأ اتفاقية “ويستفاليا”، في حين أن العالم بأسره كان يبدو متفقاً على إقصاء أي طرف دولي (غير غربي) لا يمتثل لهذا المبدأ، دولة كان أم تنظيماً، من مغامرات الاتحاد السوفييتي في أوروبا الشرقية وأفغانستان، إلى مغامرة صدام حسين في الخليج العربي، والصين في تايوان.
في خضم هذه القرون الطويلة تم الاستغناء عن مبدأ الاستعمار المباشر، و أجبرت دول كبرى بحجم فرنسا وبريطانيا مثلاً على الانسحاب من مستعمراتها التاريخية في الهند ومصر و شمال أفريقيا، وحتى من هونغ كونغ وسنغافورة و غيرها، الولايات المتحدة ذاتها طاوعت الجميع و انسحبت صاغرة من فيتنام، وأخيراً من أفغانستان و قريباً من العراق..
يبدو هذا المبدأ المهم، عنصراً أساسياً في تشكيل النظام العالمي الجديد، بصيغة العولمة تارة، والسوق المفتوح، والاقتصاد المشترك المترابط، والنظام الصحي الدولي المرتبط بالأمن الإقليمي والمحلي، حيث تتحول كل حكومة في أي بلد إلى إدارة محلية منتظمة في سياق عالمي، متناسق و مترابط، صحياً، اقتصادياً، أمنياً، وحتى عسكرياً، وأي خلل يحصل في أي جزء منه ينعكس مباشرة على أسواق العمل في العالم بمجمله، بحيث يبدو مثال جائحة كورونا واضحاً على ترابط الوحدات المحلية في نسق عام شامل..
لكن وبما أن التاريخ يعيد نفسه مراراً وتكراراً، عبر تحركات اجتماعية و اقتصادية وأحياناً انتخابية، يبدو أن عجلة الزمن تدور من جديد، فها هو العالم يتحرك ببطء شديد تجاه تجاذبات خطيرة تخرق مبدأ “ويستفاليا” الشهير، بوتين في الشرق يتوسع، في مواجهة الغرب، يقضم القرم، وسوريا، وقبلها شمال جورجيا و أبخازيا، ينتشر في أفريقيا، وها هو يحشد جيوشه على حدود شرق أوكرانيا مهدداً باجتياح دونباس مستخدماً نفس حجة هتلر التي تقضي بأن مواطنين روساً يسكنون في تلك المنطقة و هم بحاجة للانضمام إلى الأرض الأم..
قبل بوتين فعلها حليفه الايراني، ولكن بناء على مبدأ غير قومي، وانما على مبدأ ديني، بحجة دعم المواطنين الشيعة المضطهدين في أي دولة يحتاجون فيها للمساعدة، فتحرك حسب ادعائه في العراق بداية في حرب طاحنة استمرت ثمانية أعوام، استمر بعدها في سوريا ولبنان واليمن والبحرين والكويت ومصر وحتى السعودية.. بحيث بات الهلال الشيعي يطوق المنطقة بمجملها بشعوبها وبمصالح الجميع من غرب وشرق..
الجديد في الأمر هو ظهور الرئيس التركي أردوغان واستقباله لزعيم الحزب القومي، ليقدم له الأخير خريطة للعالم التركي، كما يتصورها الحزب التركي القومي، رغم أن هذا الرجل ليس في منصب رسمي، ولكن الرسالة تبدو واضحة لمن يريد التفكر في الأمر، فالرئيس أردوغان يملك حساً قومياً غير خفي، ويرغب علانية في فتح طريق بري يصل تركيا بالعالم التركماني في غرب آسيا، عبر أذربيجان، وتركمانستان و قرغيزيا وصولاً حسب طموحات المتفائلين إلى تركستان الشرقية وهو الإقليم الغربي في الصين الذي نال الكثير من الجدل حول اضطهاد المسلمين و اتهامات خطيرة من دول و منظمات حقوقية للصين بارتكاب حملات تصفية بحق أقلية الإيغور التركمانية في الصين.. لدرجة أن الولايات المتحدة فرضت مقاطعة دبلوماسية على الأولمبياد الشتوي المقبل في الصين نتيجة لتلك التقارير..
الجميع يعلم أن التوسع خارج الحدود بات خطاً أحمر، وخصوصاً من دول تحاول جاهدة أن تجد لنفسها نفوذاً أكبر من ذي قبل، لكن المشكلة أن هذا التوسع لا يتسق مع حساسية انهدام الديمقراطية المتقدم الذي يشهده العالم، عبر تراجع الدول الخاضعة للديمقراطية لأول مرة منذ سنوات طويلة، والديمقراطية تعني فيما تعني ذلك (النموذج الغربي) الذي ينتشر ببطء برفقة العولمة والنظام الرقمي والمالي والتكنولوجي، في كُل واحد لا فكاك منه، وأي تهديد لهذا المبدأ المؤسس للديمقراطية الغربية، يعني أننا سننتهي إلى صيغة مختلفة عن العالم الذي نعيش به، فالديمقراطية مرفوضة في نظام بوتين، وكذلك في الصين، وإيران، وتوجد عليها محاذير كبيرة في تركيا التي ترغب في اختيار ما تريد من النظام الغربي الذي تتوق للانضمام إليه.
بحيث لا تمر سنة دون أن يصدر تصريح من وزير ما صيني أو روسي أو تابع إيراني، بضرورة إلغاء التعامل بالدولار، أو كسر هيمنة الإنترنت المعاصرة، عبر خلق كيانات سيبرانية موازية كما في الصين (الجيل الخامس)، أو روسيا، فتكون الصين رأس حربة لمواجهة العالم الغربي، المُترع بالأغلاط طبعاً، ولكنه على الأقل يقدم نظاماً إنسانياً يتبنى شرعة حقوق الإنسان بأكمل أوجهها، وقانوناً ناظماً للحياة لا يستثني أحداً، وهو ما لا نجده في أي نموذج روسي أو صيني، وبالطبع إيراني.
قبل أشهر قدمت وزارة الخارجية الإيرانية احتجاجاً رسمياً لدى السفارة الروسية، على صورة حديثة التقطت على درج السفارة الروسية تضم ثلاثة كراسي، جلس على الأيمن والأيسر سفيرا بريطانيا وروسيا، فاسحين المجال لكرسي فارغ، في تماثل كبير مكاني وتكويني للصورة التاريخية التي التقطت على درج السفارة ذاتها حيث ضمت تلك الصورة كلاً من تشرشل وروزفلت وستالين عام 1943، تحت عنوان مواجهة النازية، وكانت بداية لإسقاط النازية وانتصار الحلفاء و تقسيم إيران ضمن مناطق نفوذ بينهم..
ربما يبدو الطرفان نافياً بشكل كبير لمبدأ الحرب المباشرة، ولكن الجميع يجهز لأمر ما، في انتظار ساعة الصفر، التي تبدو أنها ستبلغ أوجها في شرق أوكرانيا، أو ربما سوريا، أو في نطنز حيث المفاعل النووي الذي تتجهز إسرائيل لقصفه، لا أحد يدري ساعة الصفر في المواجهة الكبيرة، العالم للأسف يحتاج للحرب، يحتاجها بشدة، فالنظامان الرأسمالي الديمقراطي، والشمولي الدكتاتوري الرأسمالي، يعيشان فصولاً من الإحباط الناتج عن مواربتهما للحرب، والخوف منها، درءاً للدمار الهائل الذي ستنتجه، ولكن الحقيقة أن الدورة الطبيعة لمفاعيل سقوط الاتحاد السوفييتي، لن تكتمل بوضوح دون حرب، الإحباط الاقتصادي، التضخم، الأوبئة، التغيير المناخي، صعود اليمين المكبوت في الدول الغربية، الذي يعلو صوته مطالباً بالحرب، والحسم، والعودة إلى أيام المجد، أفول عصر النفط، أزمات المياه، فشل الأمم المتحدة ومجلس الأمن في حلحلة مشاكل العالم، كل تلك المؤشرات تجعلنا نواجه فكرة أساسية، تسوي جميع المشكلات، الحرب.. تلك التي يخشاها الجميع ويقتربون منها بحذر ضمن سياسات الردع، ومن ثم يعاودون الابتعاد عنها، لن ينجح الجميع في تجنبها إذا وجد مغامر اجتاح حدود “ويستفاليا”.
العالم في أزمة كبيرة، لا ينكرها أحد مطلقاً، الأسعار في ارتفاع جنوني، في جميع أركان العالم، كورونا لا يبدو أنه سيشد الرحال قريباً، وقانون “ويستفاليا” الهش يبدو أنه سيكون الضحية الأولى، فإما أن تتراجع إيران عن ابتلاع الأراضي التي احتلتها، وأن تتراجع روسيا عما ستقوم به في أوكرانيا، وكذلك الصين في سياساتها تجاه تايوان.. وإما أن مشاكل العالم بمجمله ستجد لنفسها حلولاً في الحرب.
لا عالمنا بحاجة إلى زعيم نادر، أو ربما غير موجود يستطيع إخراج الجميع من عنق الزجاجة العالقين بها.. من دون حرب.