ميديا – الناس نيوز ::

المدن – د . سلام الكواكبي – جرت العادة المجتمعية، والرسمية وشبه الرسمية، والإعلامية وسواها، على أن يتم تبني مصطلح بسيط، وكذلك المركب، في كل حقبة زمنية محددة.
وقد يُصار من خلاله العمل على تمرير رسائل أو أجوبة، أو محاولة هروب وتهرّب من ضرورة الوضوح والإيجاز في عرض البرامج أو الأفكار. كما أن هناك زماناً ومكاناً لكل تعبير بسيط أو مركب، لكي يُشغل المشهد العام ويكون على “الموضة”، والمتعارف عليه في زمن وسائل التواصل الاجتماعية بـ”الترند”. وذلك من دون أن يعي مطلقوه أو مستخدموه أو من لف لفهم، معناه وحمولته ومآلاته.
وعلى سبيل المثال، فقد انتشر مصطلح التنمية المستدامة في حقبة زمنية معينة، كثر فيها الكلام عن أمور التنمية وشروط استدامتها من دون انقطاعات تذكر. ثم انتشر بشكل واسع النطاق، مصطلح الحوكمة الرشيدة.
ها وكنت إن طرحت سؤالاً تفسيريا على المستخدمين، فمن النادر أن تحصل على جواب دقيق يشير إلى معرفتهم بالمضمون. المهم في الأمر اللجوء إلى استخدام المصطلح في الشاردة وفي الواردة، وذلك بهدف إظهار امتلاك المستخدم لكل المفاهيم الرائجة ومتابعته الواعية لما ينتجه علم الكلام، الذي يفضي إلى معنى أو الذي لا معنى له.
فصارت النصوص تشترط من صاحبها أن يلجأ إلى عبارة من هذه العبارات لإغناء نصه. فإن خط أحدهم نصًّا خالٍ من هذه العبارات أو ما شابهها، فمن المؤكد برأي المحيط، أن نصّه سيكون فقيرا وضعيفًا، مما سيجعله عرضة للانتقاد. وكما سيتم اعتباره خارجاً عن الإطار المعرفي المعتمد.
لقد كان اللجوء إلى استخدام هذه المصطلحات وسيلة ناجحة لإظهار المعرفة بالشيء. فكيف لك أن تتحدث عن الاقتصاد من دون الإشارة إلى التنمية المستدامة مثلاً؟ وكيف لك أن تشير إلى مشاكل الإدارة العامة أو الخاصة دونما إشارة إلى ما يسمى بالحوكمة الرشيدة؟ بالمقابل، هل المطلوب منك أن تعي بدقة ماذا تعني هذه العبارات أو ماذا تفضي إليه؟ بالتأكيد لن يسألك أحد عن ذلك. حتى أن مصطلحاً نبيلاً كمصطلح الشفافية قد صار يقحم في كل عبارة تعالج مسائل اقتصادية وإدارية وحتى سياسية. فإن لم تتحدث عن الشفافية في معرض علاجك لمواضيع مرتبطة بهذه النقاط، فأنت ضعيف وغير متمكن.
وكذلك، ترتبط بعض المفاهيم والمصطلحات بشروط يفرضها العمل مع بعض الجهات المانحة. فترى مثلاً أن منظمة تعنى بتطوير الزراعة ستستخدم مفهوم الجندرة في معرض حديثها عن برامجها المقترحة من دون معرفة معناها الدقيق، بل وأحيانًا، بمعرفة للحمولة المفاهيمية، ولكن يجري إقحام المفهوم في غير مكانه. ويكون الدافع إلى ذلك هو مجرد ورودها في النص الذي حمل الإعلان عن المنحة التي تسعى المنظمة للحصول عليها.
اليوم ينتشر في المجتمع السوري وفي الإعلام السوري وفي أحاديث السياسيين والمثقفين السوريين مصطلح السلم الأهلي. ويبدو للمتابع، أن هذا المصطلح الجميل يُقحم في كل النصوص.

فإن كان الحديث عن كرة القدم وعن الدوري الذي تلعبه فرق محلية، فمن المفترض الإشارة إلى أن هذه الألعاب تعزز السلم الأهلي. أما إذا اختلف فريقان على أرض الملعب، فمن المؤكد أن خلافهما قد يهدد السلم الأهلي.
وإن رضي النقاد عن مسلسل تلفزيوني ما، فسيصار إلى القول بأنه أيضاً يعزز السلم الأهلي. أما إذا كان النقاد مختلفون عن نوعية وسوية هذا المسلسل، فمن المؤكد أن أحدهم سيشير إلى أن هذا العمل قد يهدد السلم الأهلي.
وإن جرت مناظرة تلفزيونية بين فريقين من طلاب المدارس، فمن المؤكد أن منشط هذه المسابقة سيقحم مصطلح السلم الأهلي في معرض حديثة عن المسابقة وأهدافها.
أما إن كان الحديث يتطرق إلى احتفال فئة معينة من المجتمع السوري بأعياد دينية أو وطنية، فمن المؤكد أيضاً وأيضاً بأن التعليق سيتوج بالإشارة إلى السلم الأهلي.
في أحد برامج الفنان زياد الرحباني الساخرة، يجري حوار بين شخصين يفاضلان بين الأحزاب اللبنانية. فيقول الأول بأن حزبه هو الأفضل لأنه مع “العدالة الاجتماعية”. فيجيبه الثاني مستنكرًا ومشدّدًا على أن حزبه أيضًا هو مع العدالة الاجتماعية. ثم يُضيف ساخرًا مسائلاً الآخر “هل تعرف حزبًا هو ضد العدالة الاجتماعية؟”.
تذكرت هذا المقطع القديم وأنا أتابع ظاهرة تكرار اللجوء الى استخدام مفهوم “السلم الأهلي”، وإقحامه في الشاردة والواردة على لسان المسؤولين السوريين الجدد أو من يلوذ بهم من إعلاميين. وصار من الطبيعي أن ترد العبارة في معرض الحديث عن الأداء الحكومي الجديد.
وقد بدأ واضحا بأن استهلاك هذا المفهوم تضاعف إثر قيام بعض الفصائل الحكومية بمذابح في منطقة الساحل السوري.
فصار الإعلام يتحدث عن السلم الأهلي كما المسؤولون المحليون يشيرون إلى الحفاظ على السلم الأهلي، ولم ينقص إلا أن تخرج علينا أغان وأناشيد تتحدث عن السلم الأهلي.
ويغيب عن مستخدمي هذا المصطلح أنهم بتكرار هذا الاستخدام يفرغونه من حمولته، ويجعلونه عبارة مستهلكة، ربما تفضي يوماً إلى أن يلفظها الناس.
إن العمل على إرساء مفهوم السلم الأهلي بشكل فاعل وحقيقي في المجتمع، لا يستوجب فقط إدراج المصطلح في النصوص التعبيرية، وكأنه وظيفة مدرسية.
السلم الأهلي يحتاج إلى مشروع وطني واضح وإلى تحديد المسؤوليات وإلى عدالة انتقالية تعمل على إدانة المجرمين من أي جهة أتوا. السلم الأهلي يحتاج إلى عقد اجتماعي يجري الاتفاق عليه من خلال حوار
وطني يجري على مستويات عدة، من النواة الصغيرة إلى النواة الكبرى. وذلك للوصول إلى نتائج تعكس آمال الشعب السوري في مستقبل أقل خطورة مما هو متوقع.
