إن النص المقدس بطبيعته نص إشكالي. هذه السمة الإشكالية تنطبق على النص المقدس الإسلامي، مثلما تنطبق على غيره من النصوص المقدسة لأديان الثقافات العليا. فكتاب التاو الصيني بقي موضع تأمل وإلهام العقول الصينية والشرق أقصوية، منذ أن وضعه الحكيم لاو تسو قبل ألفين وخمسمئة عام من يومنا هذا، وما زال الجدل قائماً بشأنه حتى الآن شرقاً وغرباً. وهذا هو حال الأوبانيشاد الهندي الذي تم تحريره في الزمن نفسه تقريباً، والذي ميزت كل فرقة هندوسية نفسها اعتماداً على طريقة فهمه وتفسيره؛ وأناشيد الغاثا التي وضعها زرادشت، والتي فهمهما مفكرو كل طور من أطوار الزرادشتية على طريقته وصولاً إلى المجوسية المتأخرة، وأسفار الأنبياء في كتاب العهد القديم التي تشكل الجانب الروحي في التوراة؛ وكلمات يسوع البسيطة والملغِزة في آن معاً، والتي ما زال الخلاف قائماً في تفسيرها وتأويلها.
تنبع إشكالية النص المقدس من عدة عوامل:
1- يستخدم النص بُنىً لغوية وأسلوبية قديمة، متصلة بالعصر الذي دوِّن فيه؛ فهو ينتمي إلى زمن ماضٍ وبيئة ثقافية واجتماعية مغايرة تماماً لبيئة عصر القارئ.
2- يتسم النص بلغة أدبية راقية تستنفد كل الإمكانات البلاغية لعصرها، وهي أقرب إلى اللغة الشعرية من حيث الاختصار والإيجاز، وزخم الكلمة والعبارة؛ وهذا ما يبعدها عن أساليب التعبير النثرية المباشرة الخاصة بالعصر الحديث.
3- رسالة النص الديني عاطفية روحانية، تتوجه إلى القلب قبل العقل، وهي تهدف إلى زرع الإيمان في تجاوز لطرائق البرهان؛ فإذا أُخضعت بعد ذلك إلى التأمل العقلي، صار الإيمان والبرهان بحاجة إلى ما يؤلف بينهما.
4- إن موضوعات النص الديني، من حيث طبيعتها، تتأبى على الصياغة بمفردات اللغة الاصطلاحية المعدة أصلاً للتعامل مع المحسوس والملموس، والتي تغدو عرجاء كلما ابتعدنا عن التعامل مع ظاهر الموجودات في محاولة للتعبير عن بواطن العلاقة بين النهائي واللانهائي، بين المحدود والمطلق. هنا لا تجد اللغة بُداً من اللجوء إلى الإشارات والرموز من أجل التعبير عما يصعب التعبير عنه بالوسائل المباشرة.
5- يتوجه النص الديني إلى شرائح مختلفة من الناس تتوزع بين الجاهل والمتوسط والعالم، وعليه أن يصوغ رسالته إليهم على عدة مستويات، بحيث تفهم كل شريحة منهم على قدر استيعابها، وذلك انطلاقاً من الأبسط الظاهر إلى الأعمق الباطن، من غير الوقوع في التناقض بين المستويات.
6- على الرغم من ارتباطه بزمان معين ومكان معين، فإن النص المقدس في الديانات العالمية التي تعتمد التبشير بين الأقوام كافة يتوجه إلى الإنسان في كل زمان ومكان. وهذا يستدعي بالضرورة احتواءه على معانٍ قريبة مباشرة، وأخرى بعيدة تتفتح تدريجيا بمرور الزمن وبالتطور المعرفي للإنسان. أي إن سعة التجربة المعرفية لكل جيل سوف تقود إلى إدراك مستويات للنص لم يكن بمقدور الجيل الأسبق إدراكها.
7- إن الكلمات في أي لغة كانت، محتملة للمعاني، والأفهام تذهب في طلبها كل مذهب، كما تتعدد دلالات العبارة الواحدة حتى لو أراد بها قائلها معنى واحداً. وتتعقد هذه المشكلة كلما اتسعت الشقة الزمنية بين المرسِل والمستقبل.
8- لا تنظم مقولات النص المقدس في كلِّ متسقٍ، وهو لا يعبر عن نفسه بشكل خطي ينطلق من المقدمات إلى نتائجها، على طريقة النص الفلسفي، وإنما عبر لمحات وومضات وإشراقات.
إن إشكالية النص المقدس هذه، قد دعت بالضرورة إلى نشوء علم على هامش النص يُعنى بفهمه من خلال التفسير والتأويل. يَنصبُّ جهد التفسير بالدرجة الأولى على المشكلات اللغوية للنص، وترجيح معنى معين من المعاني المحتملة للكلمة الواحدة، أو دلالة بعينها من دلالات العبارة نفسها، مستنداً في ذلك إلى اللغة الاصطلاحية، وما تواتر إلى المفسر من وجهات نظر الأجيال السابقة الأقرب إلى زمن النص. أما التأويل فيتابع العملية التفسيرية من أجل الكشف عن المستويات الباطنية للنص، مزوداً بعلوم متنوعة تتجاوز علم اللغة لتغطي كامل المساحة المعرفية المتاحة لأهل العصر؛ ذلك أن حجم التجربة المعرفية للإنسان في مواجهة النص المقدس، هو الذي يقود إلى إدراك عمقه وتعدد مستوياته الباطنية.
إن المفسر كلما تجاوز التفسير الحرفي القريب للنص، كلما ازداد توغلاً في التأويل الذي يشكل المستوى الأعمق من التفسير. مثال ذلك قوله تعالى في القرآن الكريم: (هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش…) سورة الحديد: الآية 4، وقوله: (الرحمن على العرش استوى) سورة طه: الآية 5. إن أكثر أهل التفسير الحرفي تزمتاً، وهم المشبهة والمجسدة، يفسرون العرش والاستواء بأن لله عرشاً يجلس عليه كما يجلس الملك؛ وهذا ما يتنافى وتنزيه الذات الإلهية وبعدها عن التشبه بأحوال البشر، وهو القائل “ليس كمثله شيء” سورة الشورى: الآية 11. أما أهل التأويل فيعطون بعداً معنوياً للعرش والاستواء، وهم في ذلك على عدة مذاهب. فالبعض يقول إن العرش والاستواء هما للتعبير عن سلطة الله المطلقة على العالم، معبّراً عنها بما تثيره هاتان الكلمتان من مفهوم السلطة على مستوى الجماعات الإنسانية. ويقول البعض الآخر اعتماداً على الحديث القدسي “ما وسعني سمائي ولا أرضي، ووسعني قلب عبدي المؤمن”، أن عرش الرحمن هو قلب الإنسان. وقد نسير مع إخوان الصفاء في تأويلهم العقلي الذي يعتمدون فيه على الحصيلة العلمية لعصرهم، ونقول إن عرش الرحمن هو الحد الفاصل بين العوالم المادية والعوالم الروحانية، والذي رأوه في الفلك الخارجي للكون الذي دعوه بالفلك المحيط، حيث تنتظم النجوم الثابتة لتشكل حافة الكون المعروف. وباستخدام المفاهيم العلمية الحديثة، هو تلك المجرات الأبعد من الكون الأحدب التي تتباعد عن مركزه بسرعات خيالية، وتشكل حداً بين المعلوم والمجهول.
مثال آخر، قوله تعالى في وصف الجنة وأحوال أهلها: (في جنات النعيم* على سرر متقابلين* يطاف عليهم بكأس من معين* بيضاء لذة للشاربين* لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون* وعندهم قاصرات الطرف عين* كأنهن بيض مكنون*) سورة الصافات: الآيات 43-49، وقوله: (على سرر موضونة* متكئين عليها متقابلين* يطوف عليهم ولدان مخلدون* بأكواب وأباريق وكأس من معين*) سورة الواقعة: الآيات 15-18، (…وزوجناهم بحور عين) سورة الدخان: الآية 54، وأيضاً: (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسنٍ وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات) سورة محمد: الآية 15 إن أهل الحرف يصرون حتى يومنا هذا على أن لذات أهل الجنة هي لذات مادية جسدانية، آخذين الوصف القرآني على ظاهره، أما أهل التأويل فيرون في وصف اللذات المادية إشارة للعارفين المتحققين إلى ما وراء ظاهر الوصف المادي من معانٍ روحانية، لأن الانتقال إلى الجنة يكون بالروح لا بالجسد، على ما يقوله إخوان الصفاء في رسائلهم. نقرأ في الرسالة 30 ما يأتي:
“أكثر (الله) في القرآن من وصف محاسن الجنان وسرور أهلها ولذات نعيمها، فتارة وصفها أوصافاً جسمانية على قدر طاقة القوم، مثل قوله تعالى: (على سرر موضونة* متكئين عليها متقابلين* يطوف عليهم ولدان مخلدون* بأكواب وأباريق…) سورة الواقعة: الآيات 15-18. ذكر هذا وبيّن على قدر قبول أفهامهم، لا بمعنى أن هذه الأشياء ستوجد في الجنة على حالات جسمانية، بل ستوجد أشياء روحانية: (ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)… وتارة وصفها بأوصاف هي بين الروحانية والجسمانية والروحانية، مثل قوله تعالى: (مثل الجنّة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن…) سورة محمد: الآية 15. أما ترى يا أخي أنه قال: مثل الجنة على سبيل التشبيه والتمثيل، ليقرُب من الفهم تصورها، لأنه يقصِّر الوصف عنها بحقائقها. وإنما خاطب كل طائفة من الناس بحسب عقولهم ومراتبهم في المعارف والفهوم، لأن دعوة الأنبياء عليهم السلام عموم للخاص والعام جميعاً ومن بينهما من طبقات الناس. وقد صرح المسيح، عليه السلام، في وصف الجنان بأوصاف غير جسمانية.. لأن خطابه كان مع قوم قد هذبتهم التوراة وكُتب الأنبياء، عليهم السلام، وكُتب الحكماء أيضاً، وكانوا غير محتاجين إلى الإشارات والتنبيهات، بل كانوا متهيئين لصورها مستعدين لقبولها. فأما سيد الأنباء وخاتم المرسلين، صلى الله عليه وآله، فقد اتّفق مبعثه في قوم أميين من أهل البوادي، غير مرتاضين بالعلوم، ولا مقرين بالبعث والنشور… فجعل أكثر صفة الجنان في كتابه جسمانية، ليقربها من فهم القوم، ويسهِّل تصورها عليهم، وترغب نفوسهم بها”. (30: 3، 76- 78).
هذا هو الوجه الموضوعي لعملية التأويل. ولكن للتأويل وجه آخر ذاتي يقول به المتصوفة؛ فالقرآن لم ينزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم مرة واحدة فقط، ولكنه في حالة نزول دائم على قلوب المؤمنين، ونزوله في القلب جديد لا يبلى إلى يوم القيامة، فهو الوحي الدائم؛ ذلك أن العارف الذي فتح قلبه للقرآن، يتلقاه وكأنه أُنزل عليه للمرة الأولى مثلما نزل على قلب محمد، ويغدو قادراً على تلمس مستوياته الباطنية دون وسيط. قال تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم…) سورة فصلت: الآية 53.
الآيات المنزلة في الآفاق هي الوجه الظاهر للقرآن، والذي يراه الناس فيما خرج عنهم، أما الآيات المنزلة في أنفسهم فهي الوجه الباطن للقرآن، والذي يراه العارفون في ذواتهم كشفاً وبياناً. فنزول القرآن على القلوب يكون بحسب استعدادها لتلقيه، وهذا معنى قوله تعالى: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها…) سورة الرعد: الآية 17. أي أنزل القرآن من السماء إلى الأرض كما أنزل المطر من الغيم، فاحتملت القلوب من علم القرآن بحسب اتساعها في المعارف وصفاء جواهر النفوس، مثلما تحمل الأودية من سيل المطر بحسب سعتها وجريانها؟
يجد التأويل أصوله في القرآن الكريم وفي الحديث الشريف. فقد نبّه الباري عز وجل إلى وجود نوعين من الآيات في كتابه العزيز، بعضها مُحكَم وبعضها متشابه، أي يشتبه على القارئ معناه للوهلة الأولى. فالمحكم واضح للجميع، أما المتشابه فيتطلب التأويل، أي التبصر في معانيه الباطنية. قال تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم. يقولون آمنّا به كل من عند ربنا…) سورة آل عمران: الآية 7، وهذه الآية يجب أن تقرأ وفق بعض المفسرين من أهل التأويل،على أن الواو الواقعة بين “الله” و”الراسخون في العلم” هي واو العطف وليست استئنافية؛ فالله والراسخون في العلم معه هم الذين يعرفون تأويل الآيات المتشابهات. وهذا الرأي هو الأصوب، وإلا فما معنى امتلاء القرآن بآيات لا يعرف تأويلها إلا الله وحده، وهو الكتاب الذي أنزل هدى للناس كافة؟
لقد أعان الله على فهم القرآن عن طريق “العلم” و”الحكمة” اللذين وهبهما لأنبيائه، وأتاح لمن يشاء من عباده الارتقاء على مدارج العلم وصولاً إلى الحكمة التي هي غاية العلم القصوى. قال تعالى: (كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) سورة البقرة: الآية 151، (يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) سورة البقرة: الآية 269، (الرحمن* علم القرآن* خلق الإنسان* علمه البيان*) سورة الرحمن: الآيات 1-4، (اقرأ وربك الأكرم* الذي علم بالقلم* علم الإنسان ما لم يعلم*) سورة العلق: الآيات 3-5، (…. وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم) سورة النساء: الآية 113، (….. قد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة…) سورة النساء: الآية 54، (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل) سورة آل عمران: الآية 48، (…. قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه…) سورة الزخرف: الآية 63، (وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث…) سورة يوسف: الآية 6، (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله…) سورة يونس: الآية 39.
ولعل في قول تعالى: (… هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم…) سورة العنكبوت: الآية 49، أوضح إشارة إلى ارتباط فهم بواطن القرآن بدرجة تحصيل العلم؛ فآياته خالية من الألغاز لدى “الراسخين في العلم” وهم ليسوا بحاجة إلى تأويله لأنفسهم بل إلى العامة من الناس، لأنهم يرون آياته في أنفسهم، وإليهم أشار تعالى بقوله: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم…) سورة فصلت: الآية 53، وفي هذا يقول إخوان الصفا في الرسالة 40:
“فمن مواهب الله الجزيلة وعطاياه الجميلة لبعض عباده، التي خص بها قوماً دون قوم، هي الحكمة البالغة كما ذكر بقوله: (… ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً…) سورة البقرة: الآية 269، يعني به علم القرآن خاصة، وتفسير آياته ومعاني أسراره… حيث يفسر قوم آيات الله على خلاف ما هو معناه، كما فسروا الاستواء بالجلوس والتمكن على العرش، والرؤية بالنظر إلى الجسم المشار إليه، وبالسمع والبصر فسروا الأعضاء الإلهية، وفسروا الكلام بالنطق والحروف، وبالنزول الانتقال من السماء السابعة إلى السماء الدنيا، وغير ذلك من الآيات التي لا يعرف تأويلها إلا الله والراسخون في العلم، وهؤلاء هم الذين يعلمون ويعرفون تأويل آياته وأسراره، ويقولون: آمنا به، كل من عند ربنا، فهذا قول الحكماء الربانيين والعلماء المتفلسفين”. (40: 3، 344).
وقد عني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بداية الدعوة بشرح وتفسير آيات القرآن لأصحابه. وهم القرشيون الذين نزل القرآن بلغتهم ولهجتهم، وما عرفوا قصد الحق من بعض التعابير والآيات، ورأوا فيها رموزاً وإشارات تتطلب الرجوع إلى النبي من أجل بيان تأويلها. ولما كان النبي عارفاً بكل بواطن القرآن وظواهره، فقد كان يفسر آياته على وجهين، الأول ظاهري يتعلق بمستوى فهم العامة، والثاني باطني يتعلق بمستوى فهم الخاصة. لهذا يُروى عنه قوله: “إن للقرآن ظهراً وبطناً، ولبطنه سبعة أبطن”. ولهذا فقد بث في صحابته المقربين تأويلات للكتاب لم يظهرها للعامة. ويُروى عن عبد الله بن عباس أنه قال في الآية 12 من سورة الطلاق (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً): “لو فسرت هذه الآية أمامكم كما سمعتها من رسول الله لرجمتموني. ويروى عن أبي هريرة أنه قال: “ورثت من رسول الله علمين، الأول بثثته فيكم، والثاني لو بثثته لقُطع مني هذا البلعوم”. وقال ابن عباس: “لو فسرته لكنت فيكم الكافر المرجوم”.
وقد بقي هذا العلم الباطني مُتوارثاً في الخاصة من الأجيال الأولى للمسلمين، يدارونه ويحجبونه إلا على من هو أهل له. وفي هذا يقول الإمام الشيعي السادس جعفر الصادق، مقتبساً عن الإمام علي كرم الله وجهه: “إن ههنا- وضرب على صدره بيده- لعلوماً جمة لو وجدت لها حَمَلةً”. ويروى عن ابنه موسى الكاظم، الإمام السابع لدى الاثنا عشرية، بيتان من الشعر تتداولهما حلقات الصوفية إلى يومنا هذا:
لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا | يا رُب جوهر علمٍ لو أبوح به | |
يرون أقبح ما يأتونه حسنا | ولا ستحل رجال مسلمون دمي |
هذا الموقف المزدوج للرسول صلى الله عليه وسلم في نقله لمضامين القرآن، يفسره محي الدين ابن عربي بازدواجية “النبوة” و”الولاية” في شخصه، أو ازدواجية “الشريعة” و”الحقيقة”. فالنبوة مختصة بالظاهر، والولاية مختصة بالباطن؛ ولكن للولاية الأولوية على النبوة بسبب أولوية الباطن على الظاهر؛ والنبوة تتضمن الولاية، ولكن الولاية لا تتضمن النبوة. فكل نبي ولي، ولكن ليس كل ولي نبياً؛ وسلسلتا النبوة والولاية ممتدتان منذ أول الأنبياء آدم عليه السلام. إذا التقتا في شخص معين، يكون هو الرسول المبعوث في أمته، وإذا افترقتا يكون هو الولي العارف العالم القادر على فهم الشريعة وباطن الشريعة. وهؤلاء هم ورثة الأنبياء القادرون بما وهبهم الله بما حصَّلوا من علم على نشر الحقيقة وتبيانها للناس على قدر استيعاب عقولهم ودرجاتهم في المعرفة. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: “العلماء ورثة الأنبياء”. وإذا كانت سلسلة الأنبياء قد انقطعت بالبعثة المحمدية، فإن سلسلة الأولياء مستمرة إلى يوم القيامة، لأن الباطن لا يتوقف عن التفتح باستمرار.
فإذا كان القرآن كلام الله، فإن هذا الكلام لم يُرسل لكي تفهمه فئة من الناس ذات معارف عقلية معينة في زمن معين، وإنما لكي يفهمه البشر عبر مراحل عصورهم، وما يحمله تقدم العصور من توسّع في الآفاق وزيادة في المعارف. فرسالة النص المقدس ذات وجهين، وجه تاريخي يتبدَّى في زمان معين ومكان معين، ووجه آخر يسمو على التاريخ وتقلباته ليتبدى جديداً أبداً. والوسيلة المثلى للجمع بين هذين الوجهين وقراءة أحدهما في الآخر، هي متابعة عملية التفسير والتأويل. إن على كل عصر أن يكشف عن بطن من بطون القرآن التي أشار إليها الحديث الشريف، لا يتعارض وظاهره، لأن الظاهر أساس الباطن والمدخل إليه؛ والتوكيد على الباطن يجب ألا يقود إلى نسخ الشريعة أو إضعافها، مثلما أن التوكيد على الظاهر يجب ألا يعمينا عن المعاني الروحانية للنص. ذلك أن الشريعة إذا تجردت من بواطنها تغدو مجرد عبادات شكلانية منقطعة عن معانيها الروحانية، والحقيقة إذا فارقت أصولها في الشرية تؤدي بنا إلى الغلو في التأويل والانقطاع عن جوهر الإسلام. بهذا المعنى فقط يمكننا القول إن القرآن صالح لكل زمان و مكان.
ولقد أعطى التأويل ثماره في بيئتين فكريتين إسلاميتين هما البيئة الاعتزالية والبيئة الشيعية. ولكن بينما يؤكد المعتزلة على إعمال العقل في القرآن وفي الحديث النبوي الشريف، من أجل الكشف عن بواطن معانيهما ورد المتشابه إلى المحكم، فإن الشيعة ينظرون إلى التأويل على أنه إرث روحي تواتر إلينا من الرسول وآل بيته الكرام، عبر سلسلة الأئمة المتحدرين من صلبه، والذين اعتُبروا بمثابة القيّم على القرآن، يفسرونه ويوضحون للناس ما خفي من معانيه اعتماداً على علمهم المتوارث. قد تعلم علي بن أبي طالب على يد رسول الله وكان أقرب الناس إليه، وعنه حمل علم القرآن وتأويله ثم بثه في أولاده، ولهذا قال الرسول: “من كنتُ مولاه فعلي مولاه”. وقال: “أنا مدينة العلم وعلي بابها”. وقال: “مَثَلُ أهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجا ومن تَخلّف عنها غرق”. وقال: “إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهلي بيتي، ما أن تمسكتم بها لن تضلوا أبداً”. ووصف عليّ هذا العلاقة الوثيقة التي ربطته بالنبي فقال: “كنت من رسول الله مثل الفصيل (أي صغير الجمل) من أُمه أحذو حذوه”.
هذا العلم المتواتر عن الرسول والمتوارث في سلسلة الأئمة، ينقطع عند الشيعة الاثنا عشرية باختفاء الإمام المهدي الثاني عشر، لأن الإمامة قد توقفت باختفائه. أما الشيعة الإسماعيليون الذين استقلوا عن التيار الشيعي الرئيس بعد وفاة الإمام السادس جعفر الصادق، فقد تابعوا الإمامة عن طريق نسب ابنه الأكبر إسماعيل، الذي توفي قبل والده بعد أن أوصى له، وذلك في سلسلة غير منقطعة من الأئمة، ووصلوا بمفهوم الإمامة إلى أقصى نتائجه المحتملة، من خلال عقيدة تجعل الإمام في مركز الكون.
كما أثمر التأويل في الحلقات الصوفية والفلسفية، التي حرضها الفكر الشيعي على تثبيت مواقعها في مواجهة الفقهاء وأهل الحَرف. وكان إخوان الصفا من بواكير الحلقات الفلسفية التي أسست لمذهب إسلامي كوني يقوم على التأويل والتفسير الدينامي للكتاب. والإخوان على تاثرهم بالاعتزال، وبالبيئة الشيعية التي صدروا عنها، إلا أنهم مستقلون عن الشيعة وعن المعتزلة وبقية المذاهب الإسلامية، ويتسم مذهبهم بالأصالة على الرغم من أن كل التيارات الفكرية والروحانية لعصرهم قد صبت فيه ورفدته. وقد مارس تأثيراً على الفلسفة الإسلامية التي بلغت طور النضج بعده، كما مارس تأثيراً على المذاهب الإسلامية التي تفرعت عن المذهب الشيعي، ولاسيما الإسماعيلية التي قامت فلسفتها السامقة على قاعدة مكينة من فكر إخوان الصفاء.
.
فراس السواح