الجيل الجديد من العرب قد يعرف هذه الحرب الفرعية، التي حدثت في المراحل الأخيرة من الحرب الأهلية اللبنانية، بين الجنرال ميشيل عون وخصمه اللدود في المجتمع المسيحي سمير جعجع، رئيس ميليشيا القوات اللبنانية. بدأت تلك الحرب في نهاية شهر يناير/كانون الثاني من العام 1990، والهدف المعلن منها كان القضاء على الميليشيات المسيحية، ومصادرة سلاحها لصالح الجيش اللبناني. وقد جاءت هذه الحرب بعد أن أعلن ميشيل عون حربه ضده السوريين في 14 مارس/آذار 1989، التي سمّيت بحرب التحرير، ليحارب على جبهتين متشابكتين في الداخل اللبناني، لم ينتصر في أي منهما. وقد أدت حرب الإلغاء إلى مقتل ما لا يقل عن ألف مواطن مسيحيي، بين مدنيين وعسكريين، وتدمير أحياء كاملة من بيروت الشرقية التي كان وحتى ذلك التاريخ تعتبر آمنة ومعزولة عن الصراعات الدموية الدائرة في القسم المُسلم من العاصمة، والمعروف ببيروت الغربية.
ومن ضمن فصول حرب الإلغاء كان اقتحام الصرح البطريركي في بكركي من قبل قوات ميشيل عون، حيث أهانوا البطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير، المؤيد يومها لسمير جعجع. أمّا عن تسمية “حرب الإلغاء” فقد وضعها جعجع بنفسه، معتبراً أن ميشيل عون أراد أن يُلغيه، مع شريحة واسعة من الشارع المسيحي.
انتهت الحرب الأهلية، كما هو معروف جيداً، بخلع ميشيل عون عن السلطة ونفيه إلى فرنسا، حيث عاش حتى السماح له بالعودة إلى لبنان بعد انسحاب الجيش السوري سنة 2005. أمّا سمير جعجع فقد ظلّ طليقاً وكان له ظهور نادر في دمشق لتعزية حافظ الأسد بوفاة ابنه باسل في يناير/كانون الثاني 1994. ولكن حلفاء سورية في لبنان أرادوا التخلص منه لكي يتمكنوا من مسك زمام الأمور بأنفسهم، وكان في مقدمتهم يومها رئيس الحكومة رفيق الحريري ورئيس الجمهورية إلياس الهراوي. وجهوا إلى سمير جعجع تهمة تفجير كنيسة سيدة النجاح في الزوق (الذوق) ميخائيل يوم 27 فبراير/شباط 1994، ما أدى إلى اعتقاله. وقد خرج العونيون يومها في مظاهرة أمام المحكمة رافعين شعارهم الشهير: “يا حمار، يا بهيم، مؤبد يا حكيم!”، حُكم على جعجع بالسجن المؤبد وتم سجنه في زنزانة صغيرة لا تدخلها الشمس في مبنى وزارة الدفاع في منطقة اليرزة، حتى صدور عفو عنه وإطلاق سراحه يوم 26 يوليو/تموز 2005، بعد ثلاثة أشهر من انسحاب القوات السورية عن لبنان وقبل شهرين من عودة ميشيل عون من باريس.
لا جعجع نسي الثأر ولا ميشيل عون. الأول خرج من السجن وعاد فوراً إلى العمل السياسي، معارضاً لحزب الله وللسوريين، والثاني تحالف معهم للوصول إلى رئاسة الجمهورية. وفي 6 فبراير/شباط 2006 فاجأ العماد عون أنصاره وأعداءه معاً بالتوقيع على اتفاقية مار مخائيل مع أمين عام حزب الله حسن نصر الله، حيث وعد باحتضان “سلاح المقاومة” واعترف بشرعيته، مقابل تعهد الحزب بإيصاله إلى الرئاسة الأولى.
وضع الحزب ميشيل عون تحت الامتحان، وكثيرون توقعوا أن يخلف بوعوده خلال حرب يوليو/تموز سنة 2006، التي جاءت بعد خمسة أشهر من اتفاقية مار مخائيل، ولكنه لم يتراجع. وقد كرر عون دعمه للحزب عند دخوله الحرب السورية سنة 2012، على الرغم من تعالي الأصوات المسيحية المطالبة بالحياد. بعد عشر سنوات من الامتحان، تمّت مكافأة ميشيل عون برئاسة الجمهورية في خريف العام 2006، وقد وافق سمير جعجع على ذلك مجبراً في اتفاقية معراب الشهيرة، لكي لا يشق الشارع المسيحي (بحسب تعبيره).
في الأسبوع الفائت، فُتح فصل جديد من حرب الإلغاء، ليس مع ميشيل عون بشكل مباشر هذه المرة بل مع حلفائه في حزب الله. فخرج أنصار الحزب في مظاهرة احتجاجية ضد القاضي طارق بيطار، المكّلف بالتحقيق بجريمة مرفأ بيروت. طالب أنصار الحزب بعزل بيطار، بعد أن سطر أمراً باعتقال أحد حلفائهم، وهو وزير المالية الأسبق علي حسن خليل، أحد الشخصيات القيادية في حركة أمل. وكان بيطار قد وحّد الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان، ليس بالوصول إلى الحقيقة، بل في سعيهم المشترك للإطاحة به. فقد وجّه اتهامات إلى رئيس الوزراء السابق حسان دياب (حليف الرئيس عون)، وإلى وزير الداخلية السابق نهاد المشنوق (حليف الرئيس سعد الحريري)، والوزراء علي حسن خليل وغازي زعيتر (حلفاء حزب الله). وحدهم “القوات اللبنانية” بقوا خارج دائرة الاتهام في جريمة المرفأ، ولكن لا علاقة للقاضي بيطار بالدكتور جعجع، كما أراد حزب الله أن يقول. فهو قاضٍ مستقل من الطراز القديم، المستقيم جداً والذي يرفض مقابلة أي سياسي لكي لا يعطيه سلطة أو تأثيراً على مجريات التحقيق.
حزب القوات اللبنانية رفض إقالة القاضي بيطار، وفي المواجهة التي حصلت في دوار الطيونة قبل بضعة أيام، اتهم أعضائه بفتح النار على متظاهري حزب الله، ما أدى إلى مقتل ستة منهم، جميعهم من الطائفة الشيعية. بدى لبنان وكأنه على شفير حرب أهلية جديدة، بين جعجع من جهة وبين عون وحزب الله من جهة أخرى.
في اليوم التالي لأحداث الطيونة، صدرت جريدة الأخبار، المؤيدة لعون والمحسوبة على حزب الله، وعلى صفحتها الأولى صورة لسمير جعج بلباس أدولف هتلر وعلى وجهه شوارب “الفوهرر” الشهيرة. حزب الله وعون أرادوا لصق تهمة القتل بسمير جعجع، وفي كلمته المتلفزة يوم 18 أكتوبر/تشرين الأول 2021، قال حسن نصر الله إن جعجع وحزبه باتا يشكلان أكبر تهديد على لبنان. وطالب نصر الله بإجراء تحقيق سريع بجريمة الطيونة، ومحاسبة الفاعلين، وهم في رأيه أنصار سمير جعجع ومريديه.
سيصعب على نصر الله التراجع عن هذا الموقف، بعد أن رفع سقف التوقعات إلى هذا الحد إرضاءً للشارع الشيعي الغاضب، ما سيجعله في مواجهة حتمية مع القوات اللبنانية، مفتوحة على كل الاحتمالات. العونيون لا يمانعون ذلك طبعاً بل يشجعون عليه، أملاً أن تكبر دائرة العنف وتطيح بالانتخابات البرلمانية المزعم عقدها في 27 مارس/آذار 2022.
صهر الرئيس وخليفته جبران باسيل لا يُريد تلك الانتخابات أن تتم، لأنها ستؤدي إلى تراجع حظوظ حزبه (التيار الوطني الحر)، المسيطر حالياً على 29 مقعد من مقاعد مجلس النواب. وهو بأمس الحاجة لهذه الكتلة عند حلول الانتخابات الرئاسية في شهر أكتوبر/تشرين الأول من العام المقبل، حيث ينوي باسيل أن يرشح نفسه خلفاً لعمه. المجلس النيابي مؤلف من 128 عضو وانتخاب رئيس الجمهورية يحتاج إلى 65 صوت أكثرية. ويدرك أنه لم يحصل عليها وحده، فحاول تأجيل تلك الانتخابات إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية، ولكن الشارع اللبناني رفض ذلك كما رفضته فرنسا ورفضه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي. ويبقى أمل جبران باسيل الوحيد هو تصاعد العنف في شوارع بيروت لدرجة تمنع اللبنانيين من إجراء أي انتخابات، ما سيؤدي إما إلى التمديد للرئيس عون، أو تأجيل الانتخابات النيابية إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية.
سمير جعجع لن يقبل بذلك طبعاً، وهو على استعداد للتحالف مع الشيطان لقطع الطريق أمام وصول جبران باسيل إلى قصر بعبدا. هو يدرك أن حظوظ القوات اللبنانية باتت معدومة في الوصول إلى الرئاسة، لأن أي رئيس بحاجة لموافقة من حزب الله، وحسن نصر الله لن يقبل برئيس معارض له في بعبدا، مهما كلفه الأمر. لذلك، يُفكر جعجع بدعم شخصية مستقلة للرئاسة، وهو على استعداد حتى للتحالف مع سليمان فرنجية، منافس باسيل داخل قوى 8 مارس/آذار، لكي يقضي على طموحات العونيين. وبذلك نكون قد دخلنا في فصل جديد من فصول حرب الإلغاء، المستمرة بأشكال متنوعة وتسميات مختلفة منذ 31 سنة.
تغير الشرق الأوسط برمته من يومها، وتغير العالم من حوله، ولكن لبنان واقف في مكانه، رافضاً أي تقدم وتطوير، تماماً كما كان هو حاله في يناير/كانون الثاني 1990. يومها كان جعجع شاباً، عمره لا يتجاوز الثامنة والثلاثين، وكان عون في السابعة والخمسين من عمره، عندما قرر محاربته حتى الممات.
كلاهما ما يزال موجوداً وفاعلاً في حزبه ومجتمعه، وقد شاب جعجع ووصل إلى عتبة السبعين، أما عون فهو في خريف العمر ويقترب من التسعين. لم يغير العمر شيئاً في سلوكهما، ولم تغير السنوات شيئاً من حقدهما على بعضهما. كما لم تغير كل الانهيارات الاقتصادية والسياسية التي عصفت بالبلد في السنوات القليلة الماضية، فلا تفجير مرفأ يعنيهما ولا سقوط القتلى في دوار الطيونة.
ذات يوم، سئل المفكر اللبناني سعيد تقي الدين، وهو من قادة الحزب السوري القومي في أيامه الأولى: “متى ينهض لبنان؟” فكان جوابه: “عندما يصل اللبنانيون إلى مرحلة يحبون فيها أولادهم أكثر مما يكرهون أعداءهم.”
ويبدو أن ميشيل عون وسمير جعجع لم يصلا إلى تلك المرحلة بعد.
أمير سعادة