غادة بوشحيط – الناس نيوز ::
مرت قبل أيام في الجزائر الذكرى الرابعة للاحتجاج الشعبي الذي سمي “حراكاً” وبدأ يوم 22 فبراير/شباط 2019، اعتبره بعض المحللين امتدادا لحركات “الربيع العربي”، في حين رأى فيه آخرون رد فعل طبيعي، جزائري خالص، على حالة العبث التي عرفتها البلاد في السنوات التي سبقته. الذكرى الرابعة للحدث الذي صار يتوارى في الذاكرة الجمعية خلف كثافة الأحداث التي تلته، خصوصا أزمة الوباء العالمية التي أدخلت البلد عزلة لأزيد من سنتين، وكانت سببا مباشرا لتوقف حالة الاحتجاج تلك، تأتي بعد أيام قليلة عن إسدال الستار عن مسابقة “كأس إفريقيا للمحليين: شان 2023″، أريد له أن يكون ضخما وإن لم يكن بالأهمية الكبيرة على خارطة المواعيد الرياضية، أشهرا بعد طبعة استثنائية من “ألعاب البحر الأبيض المتوسط” التي عرفت هي الأخرى ثناء جماهيريا داخل الجزائر، مشكلة على ما يبدو قطيعة مع وظائف الرياضة الاجتماعية التقليدية في البلاد.
حاول الكثير من المتابعين للشأن الجزائري تقديم تفسيرات ل”حراك فبراير/شباط 2019″، ورغم عدم وجود اتفاق تام حول الظروف الفعلية للتعبئة الشعبية له باعتباره لحظة ثورية مفصلية في تاريخ الجزائر الحديث، لكن لا يختلف اثنان حول دور ملاعب كرة القدم فيه.
كمختلف حركات الربيع العربي، انطلقت مسيرات حراك فيفري 2019 في الجزائر أيام الجمعة، وهو يوم عطلة أسبوعية، الذي لم يكن الجزائريون يؤسسون له قبل ذلك التاريخ سوى بموعد الصلاة الأسبوعي، ومقابلات كرة القدم لمختلف البطولات الوطنية، التي تحولت إلى خزان لثوريي “يوم في الأسبوع”، بل أن ما سمي بنشيد الحراك الأول “ساعات لفجر ما جاني نوم” كان نشيدا تصدح به حناجر ألتراس نوادي العاصمة الجزائرية قبل بداية الحركة الشعبية حتى، والذي يحمل رسائل سياسية واضحة، وقع كلماته وألحانه فرقة “ولاد البهجة” التي لا يزال الجمهور الواسع يعجز عن ربط صورة بأسماء أفرادها إلى اليوم، رغم أنهم أنجزوا أغنية أخرى خصصت للحراك بتقدم أسابيعه مع مغني راب جزائري اسمه “سولكينغ”، عنوانها “ليبرتي”، والتي بدورها ستكون حلقة من بين كثيرات في تأسس لون موسيقي جزائري وليد سمي ب”الزنقاوي”.
وفي الجزائر يمتلك “ألتراس” نوادي كرة القدم خبرة مميزة في التعامل مع قوات الأمن، ومعرفة خبيرة في التعاطي مع الشوارع التي على عكس باقي الأطياف برعوا في توظيفها أيام حراك فبراير/شباط 2019، لكن يبدو أن أيامهم صارت معدودة مع التحولات الكبيرة التي يراد للرياضة أن تؤديها ليس في الجزائر فقط.
كان من بين أهم شروط القطري “ناصر لخليفي” حين شرائه لنادي “باريس سان جيرمان” الفرنسي العريق –بحسب تقارير إعلامية متخصصة- ضرورة التخلص من “ألتراس” النادي الباريسي، للحد من تأثيرهم في مصير النادي، بالإضافة إلى استباق التحكم في حالات الشغب، هم المعروفون بالمواجهات النارية التي يدخلونها ضد ألتراس نوادي أخرى، ك”أولمبيك مارسيليا”، والتي يمكن أن تتسبب في عقوبات للنادي، أو عبث بالصورة التي يريدها له الملاك الجدد، لأهميتها على خارطة التحولات العميقة التي يعرفها عالم الرياضة عموما، ناهيك عن القوانين المستجدة والتي تنظم مختلف الرياضات التي غدت أشد صرامة من أي وقت مضى في محاولاتها لتحييد الرياضة، وكرة القدم تحديدا عن كل ما يمكن أن يضر باللعب النظيف، والقيم السامية.
لطالما كان للرياضة عموما وكرة القدم خصوصا دور سياسي، كديبلوماسية ناعمة من جهة، وبارومتر لجس نبض الطبقات الاجتماعية الأشد عمقا، ثم كمنبر شعبي فعال، يستحيل تحديد اسم لمصدر الهتافات الأشد لذعا، ومن إنكلترا إلى إيران، من أمريكا اللاتينية وحتى الجزائر، لطالما نقلت ملاعب كرة القدم رسائل سياسية قوية، يبدو أن عالم أسواق المال سيضع حدا لها.
انشغلت مواقع التواصل الاجتماعي في الجزائري خلال فعاليات “شان 23” بالصور التي أخذت تبثها مختلف التلفزيونات، التي صورت مدرجات مليئة بالنسوة والعائلات، بل حظيت “نهال”، طفلة بعمر الثماني سنوات، باحتفاء على مواقع التواصل الاجتماعي، قبل “الكاف” لرقصها العفوي على إحدى الأغاني في ملعب “نيلسون مانديلا” ببراقي في الضاحية الشرقية للعاصمة الجزائرية. أمر يبدو قد أثار حفيظة جحافل المتابعين التقليديين لهذه المواعيد الرياضية، الذين وجدوا في الأمر ثورة على العادات والتقاليد تارة، وأخرى تجاوزا لحدود المقبول اجتماعيا بتواجد النسوة في فضاءات رجالية. في حين رأى الراسخون في علم الكرة أن وجود العنصر النسوي والعائلات في الملاعب يقوض الأجواء الحماسية الضرورية لهكذا مواعيد، ما يؤثر سلبا على مردودية اللاعبين، وهو ما برروا به خيبة الفريق الوطني خلال نهائي البطولة. غضب أخير، على ما يبدو، لن يتجاوز حدود العالم الافتراضي مستقبلا.
لا تكف صور كبرى القنوات التلفزية الرياضية تنقل لنا صورا جميلة من مدرجات كرة القدم، مدرجات سيغدو الوصول إليها أكثر فأكثر صعوبة على الطبقات الاجتماعية الأدنى، لصالح الطبقات المتوسطة، وقود عالم المال خلال الخمسين سنة الأخيرة، عدوى يبدو أنها ستنتقل للمنطقة العربية، التي ستفقد منبرا من آخر منابر التعبير السياسي الشعبي.