ميديا – الناس – الناس نيوز ::
المجلة – حسام عيتاني – يُطرح هذا السؤال في ظل تكرار اتهامات بعض المتحدثين الإسرائيليين للدول والشعوب العربية بتعمد طرد اليهود من البلدان التي كانوا يقيمون فيها ويشكلون قسما من هويتها وتاريخها وثقافتها، وكمحاولة لتبرئة الدولة العبرية من المسؤولية عن الكارثة التي تسببت فيها للشعب الفلسطيني.
يتداخل التاريخان العربي واليهودي منذ ما قبل الإسلام. ولليهود ممثل في الشعر الجاهلي هو السمؤال، وحضور معروف في السيرة النبوية وصدر الإسلام استمر حتى القرن العشرين. وكان الجانبان على احتكاك وتفاعل في جميع المناطق التي وصل الإسلام والعرب إليها، من أوزبكستان إلى الأندلس. وكان من بينهم وزراء وأطباء وفلاسفة تقريبا في جميع الأنحاء التي ازدهرت فيها الحضارة العربية– الإسلامية، كموسى بن ميمون، ووزراء الخلافة الأموية في قرطبة. بيد أن ذلك لا ينفي أن العلاقة بين الجانبين كانت مثلها مثل كل علاقات الأقليات والأكثريات في العالم في تلك العصور، حيث لم يكن التسامح هو السمة الغالبة، وكانت الحدود واضحة بين الجماعات العرقية والدينية المختلفة. فمفهوم التسامح لم يتبلور ويجد سنده النظري سوى في وقت متأخر نسبيا من التنوير والحداثة الأوروبيين. قبل ذلك، كانت المعايير السياسية التي تستخدم الدين- الآيديولوجيا في الدول القديمة- هي العامل المقرر في تنظيم العلاقات بين الجماعات.
كتب الكثير عن حالات الصعود والهبوط في العلاقات العربية– اليهودية خصوصا عن العصر الذهبي لليهود في الأندلس. وانتقلت سمات هذه العلاقات إلى الإمبراطورية العثمانية والمناطق العربية التي كانت تحت سيطرتها. ولم يخل بلد عربي تقريبا من وجود يهودي عميق إضافة إلى موجات كانت تصل إلى هذا البلد أو ذاك تبعا لتغيرات سياسية في أوروبا أو غيرها وتحديدا إلى مصر والمشرق.
ظهور الصهيونية كمشروع سياسي يعكس صدى الآيديولوجيات القومية الأوروبية في القرن التاسع عشر ويدعو إلى إقامة وطن قومي لليهود لحمايتهم من تفاقم حملات القتل “البرغروم” في الإمبراطورية الروسية من جهة، وتسوية إشكالية الاندماج أو الانعزال التي عاشها اليهود في الغرب، من جهة ثانية. يهود الشرق والعالم العربي (أو “المزراحيم” كما يفضلون أن يسموا أنفسهم) لم يكونوا في بؤرة اهتمام الحركة الصهيونية على الأقل في مراحلها الأولى.
قيام إسرائيل غيّر المشهد في المنطقة برمتها. وبات اليهود في الدول العربية في موقف حرج؛ إذ إنهم وجدوا أنفسهم في مواجهة مناخ عام غير مرحب بهم، بسبب النكبة الفلسطينية وما رافقها من ممارسات وتهجير واقتلاع. كما أن الأنظمة العربية حديثة الاستقلال وخصوصا الانقلابية منها، التي جاء أكثرها إلى السلطة بذريعة محو عار الهزيمة التي تسببت فيها حكومات ما بعد الاستعمار، سواء في سوريا أو مصر أو العراق، وجدت ضالتها في توجيه الكراهية الشعبية ضد اليهود على غرار عملية الطرد التي أدارها جمال عبدالناصر. ولا يغيب عن بال أن المؤسسات الصهيونية كـ”الوكالة اليهودية” بذلت جهودا كبيرة لإقناع اليهود في العالم العربي بالهجرة إلى إسرائيل على خلفية جرائم تعرضوا لها مثل “الفرهود” في العراق في أربعينات القرن الماضي وأفضت عمليا إلى بدء نهاية مجتمع اليهود العراقيين.
مصائر مجتمعات اليهود في الدول العربية موثقة على نحو مقبول في مؤلفات يهود وعرب. وينبغي القول هنا أن هجرة اليهود شكلت خسارة للتنوع في العالم العربي وقللت من مستويات التسامح والاختلاف والتعدد فيه، وساهمت في سيادة النزعات الاستبدادية.
لكن السؤال الأبرز هو، هل هجر اليهود البلدان العربية التي كانت لمئات الأعوام جزءا منها، ضمن مخطط معد مسبقا من قبل أجهزة رسمية؟ الإجابة على هذا السؤال تحدد حقيقة “النكبة” اليهودية التي يتحدث عنها السياسيون الإسرائيليون اليوم ويريدون عبرها وضع علامة المساواة بين ما تعرض له الفلسطينيون وما جرى بين أربعينات وستينات القرن الماضي لليهود العرب.
الظروف التي صنعت هجرة يهود البلدان العربية إلى إسرائيل شديدة التباين بين دولة وأخرى. ظروف انتقال يهود المغرب تختلف عن تلك التي عاشها يهود اليمن، على سبيل المثال. عليه تبدو محاولة رسم مشهد عام لليهود العرب وهم يهاجرون إلى إسرائيل في ظروف شبيهة لليهود الأوروبيين غير صحيحة. مستوى الاضطهاد والتهديد والكراهية في الدول العربية الذي عكس التحولات السياسية والاجتماعية هناك، لم يكن منسقا ولا منظما على غرار ذاك الذي ظهر في أوروبا. وثمة شهادات موثقة عن اضطهاد اليهود الشرقيين في “وطنهم” الجديد إسرائيل لا تتوقف، من يهود اليمن والعراق وأخيرا يهود إثيوبيا حيث انتقل التوتر إلى الداخل الإسرائيلي ونجم عنه تحول اجتماعي سياسي عميق ما زال قيد العمل.
عليه، تبدو مساعي إدراج المعاناة التي واجهت اليهود في البلدان العربية، شديدة الاختلاف عن تلك التي عاشها نظراؤهم في أوروبا ولا تصلح لبناء مطالب ومفاوضات وحقوق تداني تلك التي حصلوا عليها من الأوروبيين.