من مفارقات الخطاب السياسي حول سورية اليوم مفهومان اثنان تكررا كثيراً في كل البيانات الدولية حول سورية، كما يكررهما القادة السوريون والمسؤولون الدوليون بدون تعب أو ملل، رغم إدراكهم ختل هذه المفاهيم وعدم انطباقها على أرض الواقع.
المفهوم الأول هو عبارة “الحل السياسي” التي تضمنتها كل قرارات مجلس الأمن الخاصة بسورية وكل بيانات المنظمات الدولية وتصريحات المسؤولين الغربيين الخاصة بسورية، رغم أن الجميع وعلى رأسهم بشار الأسد وروسيا وإيران الذين يرددون هذه العبارة أكثر من غيرهم، استخدموا كل القدرات العسكرية الممكنة لتغيير الحقائق على الأرض، واستعملوا كل الميشليشات العسكرية لمنع تحقيق هذا الحل السياسي، لكنهم وأمام الكاميرات يقفون ويرددون أن الحل الوحيد في سورية هو الحل السياسي.
المفهوم الآخر الذي يتلاعب عليه المجتمع الدولي أيضاً هو عبارة “حفظ وحدة وسيادة سورية وسلامة أراضيها”، مع أن كل جيوش الأرض تلعب في سورية وسمائها باتت مفتوحة للجميع لهتك عرضها، لكن من المهم تكرار عبارة حفظ السيادة السورية، ورغم أن الجميع يقرّ أن سورية اليوم أصبحت ثلاث سوريات على الأرض، وكل منطقة لها داعموها وممولوها، لكن الكل يردد أنه مع “حفظ وحدة الأراضي السورية”، و”منع تقسيم الأراضي السورية”، لكن التقسيم للأسف بات حقيقة على الأرض، بل إن هناك تبريراً أيديولوجياً لهذا التقسيم، وهو الذي قاده الكرد السوريون المتحالفون مع حزب العمال الكردستاني، الذين غيروا ولائهم من نظام الأسد إلى روسيا، ثم أمريكا مقابل الاحتفاظ بقطعة أرض يقيمون عليها نظامهم السياسي الأيديولوجي الذي تغير وفقاً للشعارات التي يرفعونها.
فمع نهاية 2011 بدأ النظام السوري بإعطاء دور لعناصر حزب الاتحاد الديمقراطي بتنظيم عملية توزيع المحروقات التي عانت من بعض النقص في مدن محافظة الحسكة، مع تصاعد المظاهرات في عموم البلاد، في نفس الوقت بدأ تشكيل مليشيا عسكرية تابعة لهذا الحزب من عناصره السوريين والأتراك، هذه الميليشيا أعلن عنها باسم وحدات حماية الشعب في تموز 2012، وأعلن أنها تتبع للهيئة الكردية العليا حديثة التكون آنذاك، علماً أن قادتها وكوادرها كلهم كانوا يدينون بالولاء الكامل لحزب العمال الكردستاني.
أطلق نظام الأسد سراح قادة حزب الاتحاد الديمقراطي مقابل خلق البلبلة لدى الكرد، وهذا الحزب يقوم بخطة عملية منظمة من أجل فرض تقسيم سورية على أرض الواقع، فبدأ باختراع ما يسمى مجلس شعب غربي كردستان، وهو بمثابة برلمان مصغّر للحزب، ثم وحدات الحماية الكردية، حيث قام النظام السوري بتسليم مدن المالكية ورميلان والجوادية وعامودا والدرباسية لحليفه الـ PYD تخفيفاً للعبء العسكري، لتوظيفه في المناطق المشتعلة، حيث بقي موظفو الدولة في هذه المدن يتقاضون رواتبهم من حكومة النظام، رغم أن هذه المدن أصبحت تحت سلطة الـ PYD ووحداته العسكرية وحدات حماية الشعب.
خاضت وحدات حماية الشعب مدعمة بطيران ومدفعية النظام السوري معارك طويلة مع فصائل الجيش الحر والمعارضة الإسلامية في رأس العين واليعربية وتل حميس، في عام 2013 وحتى بداية 2014، ثم مع تنظيم الدولة الإسلامية بعد سيطرته على المناطق التي كان يسيطر عليها الجيش الحر وقوى المعارضة الإسلامية السورية، وشكلت مواجهة وحدات الحماية مع تنظيم الدولة في عين العرب كوباني نقطة فارقة في تاريخها، حصدت بموجبها تعاطف عدد كبير من الكرد السوريين الذين بنوا موقفهم السابق منها على أساس علاقتها المباشرة والواضحة مع النظام السوري.
وبدعم كبير من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة خلال عام 2015، استطاعت وحدات الحماية الشعبية أن تسيطر على مساحات واسعة من ريف محافظة الحسكة والرقة وحلب، دون معارك حقيقية مع تنظيم الدولة الذي كان ينسحب بتأثير غارات التحالف الجوية، بينما تتقدم هذه الوحدات وترتكب في أحايين كثيرة المجازر والانتهاكات والتهجير بحق القرى العربية التي سوّيت العشرات منها بالأرض، وهجر ساكنوها بعد أن نهبت محتوياتها.
اليوم وبعد تأسيس الإدارة الذاتية التي فرضت التجنيد الإجباري في المناطق التي تسيطر عليها، أصبح تعداد هذه الوحدات يقارب الستين ألفاً، وانضمت إلى تحالف باسم قوات سورية الديمقراطية تكون ما يزيد على 80% من قوامه، كما تشمل وحدات كاملة من النساء المقاتلات تسمى وحدات حماية المرأة. وتقول وحدات حماية الشعب أن نسبة مشاركة المرأة لا تقل عن 40%.
على المستوى الاستراتيجي هذه الخطوات كلها مهدت الطريق لخطوات انفصالية، خاصة بعد سيطرة وحدات حماية الشعب على مدينة تل أبيض التي غير اسمها إلى “كري سبي”، وضمها إلى مقاطعة عين العرب كوباني، كجزء من الإدارة الذاتية في 21 أكتوبر/تشرين الأول 2015، فضلاً عن أن معظم قوى المعارضة، سواء لأسباب أيديولوجية قومية عروبية أو دينية أو حتى لأسباب سياسية تتعلق بحسابات الصراع في الأزمة السورية ترفض الخطوة الكردية، وإذا ما أخذنا الرفض التركي لها فإن السؤال عن مستقبل الإدارة الذاتية يصبح ملحاً بدرجة كبيرة.
تمكنت المعارضة السورية المدعومة من تركيا من السيطرة على عفرين، لكن بقيت المناطق الأخرى تحت سيطرة وحدات الحماية الكردية التي أصبحت بالنسبة لها أرضاً تحقق فوقها حلمها في بناء دولة كردية في الشمال السوري، يخفق فوقها علم وصورة أوجلان الذي يقبع في السجون التركية.
لقد بات تقسيم سورية بفضل هذه الخطوات الكردية حقيقة واقعة للأسف تفرض على السوريين التفكير من جديد في مآلات هذه الخطوات، وكيف يمكنهم استعادة “وحدة الأراضي السورية” بحق وحقيقة وليس في الخطاب المخاتل فقط.
رضوان زيادة