د . أمير سعادة – الناس نيوز ::
هل كان الضابط السوري الإسماعيلي الشهير عبد الكريم الجندي مرشحاً لتولّي وزارة الدفاع، خلفاً لحافظ الأسد، بعد هزيمة عام 1967؟ هذه المعلومة وردت في مكان واحد فقط، في الصفحة 142 من كتاب باتريك سيل الشهير الصادر سنة 1988، والذي حمل عنوان”الأسد: الصراع على الشرق الأوسط”.
لا يذكر سيل مصدر المعلومة، والأرجح أنها جاءت على لسان الأسد نفسه في جلساته الحوارية الطويلة مع الصحفي البريطاني. ولو صحت، فهي تبرر تنامي غضب الجندي من الأسد، ومحاولة الأخير تقييد صلاحياته، تمهيداً لعزله واعتقاله سنة 1969.
الجندي الكاره للأغنياء .
يُضيف سيل بأن الجندي كان رجلاً عاطفياً منفعلاً إلى درجة عدم الاتزان. لا يوجد تاريخ متفق عليه لولادته، فسيل نفسه يقول إنه من تولد عام 1932 أما المؤرخ الفلسطيني الكبير حنا بطاطو، في كتابه المرجعي “فلاحو سورية”، فهو يقول إن الجندي من مواليد عام 1928.
عرفه المجتمع السوري ضابطاً أرعناً وجزاراً في مرحلة الستينيات، حاقداً أو كارهاً للأغنياء وأبناء الطبقة الوسطى، علماً أنه لم يكن من المعدمين أو المحرومين، ولا من الفقراء.
جده الأكبر محمد (أبو علي) كان مختاراً في مدينة السلمية، شرق حماة، وكان والده تاجراً للأخشاب وملاكاً، له 300 دنم أرض في محيط بلدته، جعلته وجيهاً في قومه.
مع ذلك، وبعد توليه وزارة الإصلاح الزراعي سنة 1964، كان الجندي عدواً لدوداً للملاكين القدامى، عمل على تجريدهم من أراضيهم وإهانتهم مجتمعين، إمعاناً في ما يسمى بالعدالة الاجتماعية والاشتراكية الثورية.
فقد أصر مثلاً على حضورهم إلى الأرض المصادرة “شخصياً”، لمشاهدة الاستيلاء عليها من قبل الفلاحيين، وصار ينادي الفلاحيين بفلان بك وفلان باشا، لإذلال أصحاب هذه الأراضي.
في طريق “النضال”.
ولد عبد الكريم الجندي في السلمية وفيها درس المرحلة الابتدائية والثانوية. عمل مدرساً في مدارسها نهاية الأربعينيات، قبل الالتحاق بكلية حمص الحربية، حيث تعرف على رفاق المستقبل في حزب البعث العربي الاشتراكي.
انتسب بعدها إلى الجيش السوري ولم يشارك في أي من الانقلابات العسكرية التي سبقت انقلاب البعث يوم 8 مارس/آذار 1963. مع حلول الوحدة السورية المصرية سنة 1958، وصل إلى رتبة نقيب وعين في القاهرة. بعدها بعام، كان أحد مؤسسي اللجنة العسكرية لحزب البعث، التي سعت لحماية الوحدة وكان من ضمنها حليفه وربيبه صلاح جديد، إضافة لحافظ الأسد ومحمد عمران وضابط إسماعيلي آخر يدعى أحمد المير من قرى مصياف.
لا نعرف الكثير عن حياة الجندي خلال السنوات 1958-1963، ولكن المنطق يقول إنه تحمس للوحدة مثل باقي رفاقه البعثيين وندد بالانفصال سنة 1961.
شارك في انقلاب 8 مارس/آذار وأصبح أحد أقرب المقربين من صلاح جديد، الذي قام بتعيينه وزيراً للإصلاح الزراعي.
البعثيون الرفاق يقتلون بعضهم .
وبعد تغلب صلاح جديد على الرئيس أمين الحافظ ومؤسسي البعث ميشيل عفلق وصلاح البيطار، يوم 23 فبراير/شباط 1966، نُقل “الرفيق” الجندي إلى قوى الأمن الداخلي، ثم مديراً للمخابرات العامة (أمن الدولة) ولمكتب الأمن القومي، إضافة لعضوية القيادة القطرية. جمع الجندي بين كل هذه المناصب الحساسة، ليس لكفاءته أو منجزاته، بل بسبب ولاءه المطلق لصلاح جديد، وكان في حينها لم يتجاوز الرابعة والثلاثين من عمره (بحسب رواية باتريك سيل).
وقد لعب دوراً محورياً في إحباط محاولة انقلاب كان يخطط له صديقه في اللجنة العسكرية الرائد سليم حاطوم، كانت مقررة في 1 يونيو/حزيران 1966 ولكنها أُجلت إلى 3 سبتمبر/أيلول 1966.
اعتقل الجندي أحد عناصر الانقلاب وقام بتعذيبه حتى أفشى أسماء كل المشاركين، وجميعهم من الموحدين الدروز، بقيادة سليم حاطوم. شن الجندي حملت اعتقالات في جبل الدروز، طالت 300 شخصية درزية، وهرب حاطوم إلى الأردن، ثم عاد بعد هزيمة عام 1967، ليتم إلقاء القبض عليه بأمر من صلاح جديد.
أشرف الجندي بنفسه على التحقيقات معه في سجن المزة العسكري، حيث عمل على تكسير أضلع حاطوم قبل إعدامه رمياً بالرصاص، دون انتظار توقيع رئيس الدولة نور الدين الأتاسي، كما قام بفقع عينيه بإصبعه، مردداً كلمته الشهيرة: “حاج تطّلع فيني يا عرصا”!
ولكنه بدأ يدرك أن الدائرة المحيطة بصلاح جديد بدأت تتقلص وتفقد الكثير من نفوذها بعد حرب يوليو/حزيران. أول من أطيح به كان أحمد المير، قائد الجبهة الذي حُمّل أوزار الهزيمة ونقل إلى منصب عسكري فخري في السفارة السورية بمدريد.
ثم جاءت إقالة رئيس الأركان أحمد سويداني، المقرب من صلاح جديد، واستبداله بمصطفى طلاس، المحسوب على حافظ الأسد. وخلال الفترة ما بين 25-28 فبراير/شباط 1969، أطلق الأسد، بمساعدة شقيقه رفعت ومصطفى طلاس، انقلاباً مصغراً بدمشق، أطاح برؤساء تحرير الصحف الرسمية المحسوبة على صلاح جديد، وبدأ يضيق الخناق حول عبد الكريم الجندي. كانت المركبات التابعة للجندي تقوم بتعبئة الوقود في كازية وزارة الدفاع، وكلما وصلت واحدة منها، تم اعتقال سائقها وتجريده من سلاحه.
خوفاً من الاعتقال ومن مواجهة مصير سليم حاطوم، أطلق عبد الكريم الجندي الرصاص على رأسه ليلة 2-3 مارس/آذار 1969. أو هكذا قيل في البيان الذي أذيع عبر إذاعة دمشق يوم 4 آذار.
كان ذلك بعد محادثة هاتفية عنيفة مع علي الظاظا، مدير شعبة المخابرات العسكرية، وقد صل إلى المستشفى الإيطالي بدمشق حيّاً، وفارق الحياة متأثراً بجروحه بعد ساعات.
وقد أكد الظاظا هذه الحادثة مراراً، وقال إن في مكتبه يومها كان “الرفاق” عبد الحليم خدام ومحمد حيدر وعبد الغني إبراهيم، سمعوه يقول للجندي: “احترامي سيدي…لا لا يا سيدي…الرفيق حافظ يحبك ويحترمك ولست أنت المقصود”.
وقد نشرت صحيفة النهار اللبنانية نص وصية الجندي، قالت إنه وضعها بنفسه يوم 25 فبراير/شباط 1969، أي قبل خمسة أيام من انتحاره، وجاء فيها هجوم عنيف على الأسد وتوصية بأن يقدم منزله لصالح الفدائيين الفلسطينيين، الممثلين يومها بياسر عرفات ورفاقه في حركة فتح.