علاء الدين عبد المولى ـ الناس نيوز:
كثيرة هي المرات التي تمّ استدعائي لأجهزة المخابرات في مدينة حمص (وسط سوريا) أو العاصمة دمشق. والأسباب تتداخل بين كوني ابن عائلة تم إعدام اثنين من أبنائها في معتقل تدمر الساسي، وبين كوني شاعرا حمل مأساة أخوته مع أن هذا الشاعر سوف يبحث في آفاق الحياة عن خيارات اجتماعية وفكرية وفلسفية مناقضة لما كان عليه أخوتي وأبي. فأمام مأساة كبرى من هذا النوع لا يمكن أن يكون الشاعر مصابا بفصام أخلاقيّ ويقفز فوق انتمائه لأخوة قضى النظام على حياتهم لأنهم يعارضونه. كان هذا سببا جوهريا لأتكلم عن محنة أخوتي، ومن خلالها عن محنة السوريين، في قصائدي ومقالاتي وحواراتي التي كانت تدور سرا وعلنا.
المرة الأولى التي أعلنت فيها موقفا خطيرا كانت في مرحلة دراستي الثانوية، وقد أجبرونا على الانتساب إلى شبيبة الثورة! تقدمتُ إلى مسابقةٍ شعرية تقيمها الشبيبة بالتعاون مع اتحاد الكتاب. وفزت يومها بالجائزة الثانية عن قصيدة مكتوبة حول مذبحة حماة! ولولا العبارة الأخيرة في القصيدة وهي عبارة (لعنة الدنيا حماة) لمرّ الأمر دون تدخل من المشرف على المسابقة وكان يومئذ الأديب مأمون ضويحي الذي استفرد بي قبيل إلقاء القصيدة في المركز الثقافي في مدينة طرطوس (على الساحل السوري) وطلب مني همسا أن ألغي قراءة السطرين الأخيرين من القصيدة لأنهما غير مقبولين ولا يمكن أن يتم السكوت عليهما وبالتالي فسوف تلغى الجائزة. في تلك المرحلة كنت ما زلتُ خائفا غير ناضج وغير قادر على المواجهة العلنية. وبفطرتي وانفعالي قررت أن أكسب قراءة القصيدة وسوف تكون عن مذبحة حماة من غير أن أذكر اسم المدينة. قرأت القصيدة بحضور أمانة فرع حزب البعث ومحافظ طرطوس! الذي انتظر المشاركين على الباب الرئيسي ليصافحهم ويشجعهم، ولا أنسى حتى الآن عبارته التي قالها لي وهو يحدق في عيني مبتسماً: لقد وصلت الرسالة يا رفيق! ربما منذ تلك اللحظة تم الإيعاز للأجهزة الأمنية أن تشدد الرقابة على قراءاتي ومشاركاتي الشعرية. فقد بدأت في تلك المرحلة بالفوز بمسابقات محلية وقطرية. وبدأ اسمي ينتشر في الصحف السورية، واضعا أجهزة الأمن أمام حالة غريبة: أنا من عائلة راديكالية معارضة، لكني فصلت علاقتي بالدين وتبعت الإبداع الشعري والعلاقات الاجتماعية الحديثة، لكن قصائدي تظهر بوضوح موقفي من النظام. مهما ألغزت في الاستعارات والمجازات لكن هناك جملا وصورا شعرية لا تفسير آخر لها إلا أنها تصبّ في إعلان موقف مناهض لكل شيء يفعله النظام.
في مدينتي حمص كان هناك مهرجان شعريّ هامّ بدأ حمصيّا وانتهى عربيّا، هو (مهرجان رابطة الخريجين الجامعيين) كنت أشارك في كل دورة فيه تقريبا. ولا تكاد تمرّ مشاركة لي إلا ويستدعيني فرع الأمن السياسيّ بخصوص ما ألقيته من شعر. من هذه المرّات وبحضور محافظ حمص محمد ناجي العطري (الذي صار فيما بعد رئيسًا للوزراء) وبحضور فرع حزب البعث في المدينة، قرأت قصيدة مطولة منها هذا المقطع:
((يا أهل الشآمْ
أنا ما رثيتُ غلامكم
إذ كنتُ مشغولاً بصيدِ الغانياتِ على ضفافِ منامكمْ))
جنّ جنون فروع الأمن جميعها من هذا المقطع الذي يفضح أفق القصيدة الغامض كله. حضر ضابط من الأمن السياسيّ إلى إدارة الرابطة وطلب التسجيل الكامل للقصيدة. وراحت التحقيقات مع أعضاء في الرابطة ومع بعض الحضور حول ما تمّ فهمه من المقطع المذكور. لقد كنت أقصد بالضبط ما أثار جنونهم. ففي تلك المرحلة كان باسل الأسد قد مات، وقامت قيامة سوريا لرثائه وتأبينه على كل المستويات. وتضاربت الأقوال وارتبكت في تفسير ما أقصده. لأن إدارة الرابطة لو أثبتت ما قصدته حرفيا فهي في ورطة ومسؤولية محرجة. مع أن بعض الأصوات الخفية كانت تتعمد تأويل أشعاري بصورة تسيء إليّ وتوضح ما أبتغيه أمام أجهزة الأمن. فهذه ليست المرة الأولى يحدث مثل هذا الموقف. ذات يوم سئل المسؤول الثقافي عن قصيدة لي ليتم كتابة تقرير حولها من عناصر الأمن الذين كانوا دائمي الحضور في كل النشاطات، فأجابهم: هذا الشاعر دائما غاضب، وأعتقد أنه اليوم (متخانق مع زوجته) وفشّ خلقه في القصيدة! كان عناصر الأمن أغبياء بلهاء يسألون أحيانا الشاعر نفسه حول قصيدته!
لكن مقطعي المذكور لا يقبل الجدل في مقصده. ضابطُ الأمن السياسيّ يريد إغلاق ملف التقرير حول قصيدتي بالتفاصيل ويريد تقييما مقنعا يرضيه كرجل أمن. فتمّ استدعائي أخيرا للحديث حول المهرجان. لكنهم تطرقوا إلى القصيدة بشكل مداورٍ وتلميحا، لأن القضية مربكة لهم. فما عساهم يقولون بوضوح؟ هل يقولون إنك تهجو باسل الأسد؟ وتسخر من نسائنا؟ وبالمقابل كان دوري في الاستدعاء أن ألفّ وأدور و(أمغمغ) في الشرح. لم يقتنع الضابط حسب انطباعه وردود فعله. بعد أيام علمتُ من عضو قيادة فرع الحزب خضر الناعم، وهو كان من معارف أبي في عمله، وكان يعرفني ونلتقي معا كصديق في سهرات أدباء وشعراء هنا وهناك، فقد كان هذا الرجل مختلفا كثيرا عن السياق السلطوي الأمني لحزب البعث، كان رجلا شهما متفهّما لتناقضات الواقع وتعقيدات الوضع الداخلي السوري، وكان كل أدباء المدينة يحترمونه ولا يخشون منه. وكان رئيسًا لما يسمى (مكتب الإعداد الحزبي) في فرع الحزب. ذهبوا إليه وأرادوا شهادته في قصيدتي لأنه كان حاضرا بحكم كونه عضو قيادة الفرع. هو الذي أخبرني بما جرى وأنا أثق به وأصدقه. قال لي: طلب مني المسؤول الأمني أن أعطي رأيي فيك سياسيا ووطنيا، فهم يعرفون بطبيعة الحال وضعك الأمنيّ ووضع عائلتك. قلت لهم: هذا شاعر وطنيّ وقوميّ ولا غبار عليه إطلاقا. وليس في قصيدته ما يسيء للبلد ولا لنظامه، ويمكنكم على مسؤوليتي إغلاق ملفّ المسألة عند هذا الحدّ.
بعد أن هدأت العاصفة تلك، وخرجتُ آمنا، ازداد قلقي وتوتّري وقرفي من هذا الوضع. لكني بيني وبين ذاتي شعرت بأنني سجلت هدفا كبيرا في مرمى النظام وأجهزته، ومن خلال ابتسامة خضر الناعم بعد أن أنهى حديثه حول الموضوع، تأكدت أنه يعرف مقصدي بالضبط وأنني أقصد باسل الأسد، لكن خضر الناعم كما قلت رجل نبيل حقا، يعرفني شخصا سوريّا منفتحا متحررا من الأصولية وأقف ضدّ الفكر الإسلاموي الذي يحمله حتى أخوتي! ويعرف أنني علمانيّ وعابر للأديان والطوائف، لهذا قال شهادته بإخلاص وشجاعة وأنقذني من ورطة لا حلّ لها…