[jnews_post_author]
كثيرٌ من المفاهيمِ الملتبِسةِ والمُصطلحات المبهمَةِ رسَخَتْ في الذّاكرة الجمعيّة، فصارتْ أشبه بالحقائق المطلقة التي لا يجوزّ المسّ بها، وتحوّلَتْ مع الزّمن إلى ما يشبه “معلوماً من الدّين بالضّرورة”، كلّ مَن ينتقدُه يصبحُ خارجَ الملّة والجماعة.
أحد هذه المفاهيم والمصطلحات كلمة “حِجَاب”، التي تُطْلَق على “غطاء الرّأس” الذي ترتديه نساءٌ مسلمات كثيرات كفرض دينيّ، وقسمٌ من النّساء المسيحيّات إلى وقتٍ قريب، ولحدّ الآن في بعض الكنائس، بالإضافة إلى النّساء في بعض الطّوائف اليهوديّة الملتزمة.
وردَتْ كلمةُ “حجاب/ الحجاب” ثلاثاً وعشرين مرّة في “التّوراة” بمعنى واحد وهو “السّتار”، وفي مجال واحد وهو “خيمة الاجتماع” المقدّسة وما في داخلها.
أمّا بالنّسبة إلى غطاء الرّأس في “التوراة” فلا يُوجد تشريع صريح في هذا الشّأن، ويبدو ارتداؤه أقرب إلى العادات البدويّة من كونه وصيّة دينيّة.
الحجاب في الإنجيل:
لم يختلفِ الأمرُ كثيراً في “الإنجيل” عنه في “التوراة”، فقد وردَتْ كلمةُ “حجاب/ الحجاب” ستّ مرَّات فقط، ولا تخرج عن كونها بمعنى “السّتار” في مجال الهيكل اليهوديّ.
أمّا بالنّسبة إلى غطاء الرّأس في “الإنجيل” فلم يرد أيّ قول عن “المسيح” في هذا الشّأن، في الوقت الذي أكّد “بولس” في رسائله صلاةَ المرأةِ ورأسُها مُغَطّى، واصفاً عدم تغطية الرّأس بالأمر المشين: “وَأَمَّا كُلُّ امْرَأَةٍ تُصَلِّي أَو تَتَنَبَّأُ وَرَأْسُهَا غَيْرُ مُغُطَّى، فَتَشِينُ رَأْسَهَا”. ثمّ سأل مستنكراً: “احْكُمُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: هَلْ يَلِيقُ بِالْمَرْأَةِ أَنْ تُصَلِّيَ إِلَى اللهِ وَهِيَ غَيْرُ مُغَطَّاةٍ؟”. رسالة بولس الرّسول إلى أهل كورنثوس أصحاح11، عدد 5 و13.
وهنا الموضوع يتّسع أكثر، ويصبح البحث رحباً وغنيّاً، لأنّه من الموضوعات الحسّاسة التي تمّ ويتمّ تناولها قديماً وحديثاً، فكثيراً ما نسمع في الإعلام، ونقرأ في الكتب، وأحياناً في اللافتات والملصقات العامّة، هذه العبارة: “الحجابُ فرضٌ في القرآنِ”، وتكونُ هذه العبارة السّلاحَ الذي يستعمله أيُّ داعيةٍ لغطاء الرّأس “الحجاب” ضدّ أيّ شخصٍ من أنصار الرّأي الآخر المخالف.
وبما أنّ “القرآنَ” الدّستورُ الأوّل الذي يلجأ إليه المسلمون لاستنباط الشّرائع والسّلوك الحياتيّ والقِيَم الأخلاقيّة، فمن المحبّذ أنْ نقوم بجولة في سُوَر “القرآن” ودلالاته، نبحث من خلالها عن كلمة “حِجَاب” ومعانيها، ونتأكّد من كونها جاءتْ بمعنى “غطاء الرّأس” الذي ترتديه غالبيّة النّساء المُسْلمات، أولا، مستعينين بفهم السِّياق أوّلاً، وبتفسير الحافظ “ابن كثير” الدّمشقيّ ثانياً.
وردتْ كلمةُ “حجاب” سبعَ مرّاتٍ في “القرآنِ”، ستّ مرّات في حالة التّنكير (حِجَاب)، ومرّة واحدة في حالة التّعريف بالألف واللام (الحِجَاب)، وهذا ترتيب ورودها حسب التّرتيب القرآنيّ المعروف للسُّوَر:
1- {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ}. سورة الأعراف 46
هذا النّصُّ تحدّث عن “الفاصلِ” بينَ أهلِ الجنّةِ وبين أهلِ النّارِ، والخطاب الذي سيدور بينهما. “الحجاب” هنا معناه “السُّور”. (تفسير ابن كثير، ج 3 ص 417).
2- {جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا}. سورة الإسراء 45
هذا النّصُّ يخاطب نبيّ الإسلام، وقد جاءتْ كلمةُ “الحجاب” هنا بمعنى “مانع وحائل وساتر”. (ابن كثير، ج 5 ص 82).
3- {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا}. سورة مريم 17
هذا النّصُّ تحدّث عن “مريم”، و”الحجاب” هنا بمعنى “السّاتر”، وكما ورد في التّفسير: “استترتْ منهم وتوارتْ”. (تفسير ابن كثير، ج 5 ص 419).
4- {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}. سورة الأحزاب 53
وهنا وردتْ قصّة طويلةٌ برواياتٍ مختلفةٍ في تفسير هذا النَّصّ. الموضوع باختصار: تنبيهاتٌ سلوكيّةٌ للصّحابة ألَّا يخاطبوا نساءَ النّبيّ إلَّا من وراءِ حجابٍ (ساترٍ) لا وجهاً لوجهٍ. جاء في تفسير ابن كثير: “وكما نهيتكم عن الدّخول عليهنّ، كذلك لا تنظروا إليهنّ بالكليَّة، ولوكان لأحدكم حاجة يريد تناولها منهنّ فلا ينظرْ إليهنّ، ولا يسألهنّ حاجة إلَّا من وراء حجاب”. (تفسير ابن كثير، ج 6 ص 455).
وللأمانة فقد أجهد المفسّر نفسه في إيراد روايات عن سبب نزول “الحجاب” بمعنى غطاء الرّأس، لكنّ النصّ القرآنيّ لا يحتملُ أهداف هذه الرّوايات، فمعنى كلمة “حجاب” واضح لا لَبْسَ فيه من خلال السّياق، أي عدم النّظر إلى نساء النّبيّ، وباقي النّص القرآنيّ يؤيّد هذا المعنى، لأنّه تحدّث عن كون غَضِّ البصرّ عن نساء النّبيّ أطهرَ لقلوبِ المؤمنين، ثمّ يأتي النّهي عن نكاح (زواج) نساء النّبيّ من بعده، لأنّهم سيؤذونه بهذا التَّصرُّف.
5- {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ}. سورة ص 32
هذا النّصُّ تحدّث عن النّبيّ “سليمان” أنّه انشغلَ بخيولِه ونسي الصّلاةَ، حتى غابتِ الشّمسُ. فمعنى كلمة “حجاب” هنا “مكان الاستتار والاختفاء”، وجاء في التّفسير: “احتجبتِ الشّمسُ” أي “غابتْ”. (تفسير ابن كثير، ج 7 ص 65).
6- {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ}. سورة فصِّلَت 5
هذا النّصُّ تحدّث عن القوم الذين لا يريدون سماعَ “القرآنِ”، فقالوا مخاطبين النّبيّ: لا يصلُ إلينا شيءٌ ممّا تقولُ. (ابن كثير، ج 7 ص 161). فهنا أيضاً “حِجَاب” بمعنى “فاصل أو ساتر معنويّ”.
7- {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَومِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَو يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}. سورة الشُّورَى 51
هذا النّصُّ تحدّث عن طريقة تكليم اللهِ البشرَ. جاءَ في تفسير ابن كثير: “كما كلّم موسى، عليه السّلام، فإنّه سألَ الرّؤيةَ بعدَ التّكليمِ، فحُجِبَ عنها”. (ابن كثير، ج 7 ص 217). وهنا أيضاً “حِجَاب” بمعنى “فاصل أو ساتر”.
وهنا نصل إلى الإجابة عن السّؤال الوارد في عنوان المقال: نعم، ورد ذكرُ “الحِجَاب” في “القرآن”، لكن ليس بالمعنى الذي يتبادرُ إلى ذهن السّامع في عصرنا هذا.
يبدو أنّ كلمة “حِجَاب” أصابها تغيّر في الدّلالة، فصارتْ تعني “غطاء الرّأس والشّعر”، بما لا ينسجم مع معانيها في “القرآن”. أمّا عن سبب هذا التّطوُّر الدّلاليّ، فهذا ما يحتاج إلى بحثٍ آخرَ مطوّلٍ.
المصدر في التّفسير:
ابن كثير الدّمشقيّ، إ. (1997م) تفسير القرآن العظيم، الجزء الرّابع . الرّياض : دار طيبة للنشر . ط 2.
ايلي جرجس .