نشمي عربي – الناس نيوز ::
( 2 من 2 ).
يجب أن أعترف بدايةً أن موضوع تعيين مايكل راتني سفيراً أميركياً جديداً إلى المملكة العربية السعودية ربما أصبح الآن تفصيلاً صغيراً وثانوياً في سيرورة العلاقة بين واشنطن والرياض، كذلك أن أؤكد بأن تأخر نشر الجزء الثاني من هذا المقال قد فرضه واقع جديد أراه يتشكل في العلاقة بين البلدين من المبكر جداً رصد اتجاهه وسَمْتَهُ ومفاعيله، وهذا قد يأخذ وقتاً ليس بالقصير ليطفو على السطح.
بعد أن تحدثت في الجزء الأول ( أعتذر في التأخير بسبب ارتباط المادة بالمستجدات ) عن الآثار الكارثية لاتفاق أوباما النووي مع ملالي طهران على علاقات أمريكا مع حلفاءها التاريخيين في المنطقة ( وفي مقدمتهم السعودية )، كنت أنوي أن أتحدث في الجزء الثاني منه عن مستقبل العلاقات الأميركية-السعودية مستنداً إلى ما يمكن أن تقدمه السعودية اليوم من خلال وزنها المهم عربياً وإسلامياً ودولياً للإدارة الأميركية الديمقراطية، في وقت هي أحوج ما تكون فيه إلى حليف من وزن المملكة في مواجهتها المفتوحة في أوروبا لتداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، وانعكاسات هذه المواجهة في أسعار الطاقة عالمياً ومحلياً في الولايات المتحدة التي تتأهب لانتخابات الكونغرس النصفية في الخريف القادم، والتي سيكون لأسعار الطاقة ومستوى التضخم المقلق الذي يعيشه المواطن الأميركي نتيجة تداعيات أزمة الكوفيد وما تمخض عنها من ركود اقتصادي، تأثيراً مهماً في نتائجها التي يتوقع الكثير من المراقبين أنها ربما لن تكون في صالح الإدارة الحالية.
عندما نشرت جريدة “الناس نيوز” الأسترالية ، الجزء الأول من هذا المقال كان الرئيس بايدن قد بدأ رحلته الشرق أوسطية دون أن يصل بعد إلى العربية السعودية.
أكتب اليوم وقد مضت أسابيع قليلة على زيارة بايدن للسعودية، وما جاء فيها من إشارات سعودية مهمة، إن كان من ناحية الشكل كما رأينا على شاشات الإعلام، أو المضمون كما جاء في البيانات الرسمية التي صدرت عن الطرفين، كل هذه الإشارات ربما تجعل السؤال الأكثر واقعيةً اليوم هو: ماذا تستطيع إدارة بايدن الديمقراطية أن تقدم اليوم للعربية السعودية، وبتعبير أدق للعلاقات السعودية الأميركية التي بات واضحاً وجلياً أنها على عتبة مرحلة جديدة مختلفة تماماً عن كل المراحل السابقة في علاقات البلدين المهمين.
أعلم أن التفاصيل الصغيرة هي التي تشكل الصورة الكبيرة، ولكني في موضوع زيارة بايدن الأخيرة للسعودية أختار أن أركز على الصورة الكبيرة والأهم لحدث الزيارة ككل خاصةً أنها لاتزال ماثلة في أذهان وذاكرة المهتمين.
العلاقة مع الأمريكان بالنسبة للمملكة هي الثابت، أما شكل إدارة هذه العلاقة فهو المتحول الذي يصح فيه الاجتهاد، ولعل إدارة ولي العهد السعودي لملف العلاقات الدولية للمملكة قد اختارت توجهاً واضحاً لا لبس فيه في أن المملكة في تأكيدها على محورية علاقتها مع الولايات المتحدة فهي تريد أن تستند هذه العلاقة إلى أساس متين وثابت وواضح، يراعي مصالح الطرفين ومتطلبات أمنهم القومي بصيغة أكثر توازناً وإنصافاً، الأمر الذي كنت قد توقعته وصرحت به لشخصية دبلوماسية سعودية رفيعة عشية وصول بايدن للمملكة، وأزعم أن توقعي كان في مكانه.
الموقف السعودي الجديد ليس طارئاً، ولعل المستجد الوحيد فيه هو الصراحة والوضوح والمباشرة في طرحه مع الشريك الأميركي.
هذا الموقف السعودي المستجد مبرر تماماً، فمن اكتوت يداه بـ (حليب) إدارة أوباما وتوجهها في التعامل مع الملف الإيراني المزعج للمنطقة كلها، يحق له أن ينفخ في (لبن) إدارة بايدن، التي ترسل مؤشرات واضحة أن ما في (قِدْرِها) الشرق أوسطي ربما يكون (زيتاً) أشد غلياناً لشركاء الولايات المتحدة من (حليب) إدارة أوباما الذي كوى بنانهم.
السؤال الكبير الذي يطرح نفسه اليوم هو كيف ستتعامل واشنطن مع الموقف السعودي الجديد الذي لا يقبل التأويل؟
عندما أجزم بأن الموقف لا يقبل التأويل لا أذهب بعيداً جداً كما فعل الصحفي الفرنسي المخضرم “جورج مالبرونو”، عندما غرَّدَ في حسابه على “تويتر” قائلاً: “لم يعد لزيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن الأخيرة إلى المملكة العربية السعودية أي قيمة ، حيث لم ترفع المملكة العربية السعودية في اجتماع اليوم بفيينا من إنتاج النفط إلا الشيء القليل، 100 ألف برميل يومي، قليل لا يكفي أبداً لسد احتياجات الغرب من الطاقة بعد الحرب الروسية على أوكرانيا”.
ورغم أنني أرى في ما قاله “مالبرونو” شيئاً من المبالغة وكثيراً من الإثارة الصحفية، إلا أنه محق في التقاطة دلالة الموقف السعودي المصر على ما يبدو على طريقة تعاطي جديدة بين الحليفين المهمين، الأمر الذي تحدثت عنه سعادة السفيرة السعودية في واشنطن الأميرة ريما بنت بندر بن سلطان في مقال رأي نشرته مجلة “بوليتيكو” منتصف الشهر الماضي، قالت فيه : “لقد ولت منذ زمن طويل الأيام التي كان يمكن فيها تحديد العلاقة الأمريكية -السعودية من خلال نموذج النفط مقابل الأمن، الذي عفا عليه الزمن”.
السعوديون ليسوا غريبين عن واشنطن، وأزعم أن ولي العهد السعودي جمع حوله فريقاً متمرساً في السياسات الأميركية بعض أعضائه عملوا عن قرب مع إدارات أمريكية متعددة، ويدركون بلا شك أنه قد تكون هناك مواقف أمريكية مختلفة ومتباينة من الإصرار السعودي على طريقة جديدة في إدارة العلاقات مع المملكة، بعضها سينحاز للموضوعية ولمصالح البلدين الحقيقية التي ستؤمنها بلا شك علاقة أكثر توازناً بين البلدين، تراعي بقدرٍ متساوٍ مصالحهما معاً، وبعض سيبقى متمسكاً بطريقة إدارة علاقات يرى السعوديون أنها لم تعد تخدم الطرفين كما ينبغي لها أن تفعل، وهم مصرون على تجاوزها، في الوقت الذي سيكونون منفتحين فيه على مروحة خيارات دولية قد يرون فيها بديلاً لمواقف قد يرونها سلبية من إدارة بايدن في ملفات المنطقة.
ربما من هنا كان حصيفاً أن تضمن البيان السعودي حول نتائج الزيارة بنداً مهماً ولافتاً يتحدث عن ضرورة إدراك أن لكل بلد (قيمه الخاصة به) والذي أرى فيه تمسكاً مسبقاً بعدم التراجع أمام ضغوط محتملة على المملكة، قد تستخدم فيها قضايا تتعلق (ولو ظاهراً) بمواضيع (حريات) جماعات دون غيرها في ما قد لا ينسجم تماماً مع طبيعة المجتمع السعودي، رغم الخطوات الواسعة التي خطتها المملكة في مجال الحريات الشخصية والاجتماعية ، والانفتاح الذي يمكن وصفه بالثورة البيضاء ، في السنوات القليلة الماضية، ولكن حتى في هذه فالرسالة السعودية لواشنطن واضحة: “نحن اليوم أكثر انفتاحاً في كل المجالات، ولكن فقط من ضمن رؤية جديدة وجريئة نضعها نحن، وتراعي قيمنا، والأهم مصالحنا”.
المشهد لايزال بحاجة للكثير من القراءة ومن المبكر التنبؤ بالشكل النهائي الذي ستتخذه العلاقات بين بلدين أقل ما يقال فيهما أنهما يعيان تماماً الصورة الدولية الجديدة، ومدى حيوية العلاقات بينهما اليوم أكثر من أي وقت مضى، هذا هو الأصل، والباقي كله تفاصيل، الوقت وحده سيكشف عنها، وعن الصورة التي سترسمها.