أنور عمران – الناس نيوز ::
واحد… اثنان ، يأتي صوت الرجل الواقف وراء الكاميرا، فنلتفت وكأننا في حفل استقبال أو وداع لزائرٍ غير مرئي يسمونه الوقت، يأتي الصوت فيتوقف معه الزمن عن الجري، أو يدخل في إطار، وتتشكل الحدود الوهمية بين الحركة والسكون، بين الصمت والأبدية من جهة، وبين الوميض الحارس وهو يقبض على الروح القليلة والمضطربة من جهة أخرى، وفي النهاية تتأبّد اللحظة التي غالباً ما تكون حاصل إرشادات ومحاولات عديدة تهدف إلى جعل الابتسامة مقنعة قدر الإمكان، والنتيجة ليست سوى وميض ضوءٍ نضعه في الألبوم كي نعود إليه فيما بعد، كي نؤكد لشكنا الذي لا ينتهي حقيقة كينونتنا، كنا هناك أيها الشك، وكان هناك رجل يحاول جاهداً أن يؤرشف أيامنا وهو يقف وراء الكاميرا، حتى أننا مازلنا نسمع صوته إلى الآن وهو يعد: واحد… اثنان.
عن قوة الصورة يقول روبرت فرانك، وهو واحد من أهم المصورين في العالم، وصاحب ” الأمريكيون” الألبوم الأشهر في التاريخ: “عندما يرى الناس صوري، أريدهم أن يشعروا تماماً كشعورهم عندما يرغبون في قراءة قصيدة ما مرة أخرى”.
هل قصد بقوله هذا أن يفسر لنا معنى أن نعود دائماً إلى صورة بعينها، أن نتوقف مرة بعد مرة أمام ملامحنا الغريبة عن راهننا، ونحاول أن نخمن ما لا يقبل التخمين، هل كنت حزيناً؟ يبدو ذلك، هل كنت سعيداً؟ أيضاً يبدو ذلك، ومجد الصورة أنها محاولة بائسة للاحتفاظ بالزمن السائل في صندوق، مجدها أنها تُحنّط اللحظة، فنتأملها من خارجها، فيما نبتعد نحن عنها بسرعة جنونية، نخبئ فيها الشباب والصحة والفتوة، وأحياناً لون الشعر الأسود، وبسرعة جنونية نشيخ بقربها، نشيخ بقرب الدليل الأكيد على جمالنا الذاهب إلى النسيان.
ما الذي كان يفعله الناس قبل اختراع الكاميرا؟ كيف كانوا يحتفظون بالذكريات؟ كانت اللغة تكفي لتحمل عبء الحنين بألوانه الطبيعية، أم كانت الحكايات باهتة بالأسود والأبيض؟ أقصد تلك الحكايات التي لم يَتيسّر لها راوٍ ثعلب يستطيع أن يقنع مستمعيه أن الكروم ما زالت بخير؟ .
لا تنحاز الصور عادةً إلى عاطفةٍ دون غيرها. فنحن نصادف صوراً قادمةً من الأعراس والجنازات، من الجوامع والكنائس، من خطابات الزعماء ومظاهرات الاحتجاج، حزماً من الأضواء تقدم البراهين، حيث بمقدور النور أن يُفنّد الادعاءات ويؤكد الروايات.
عن “الأمريكيون” قال روبرت فرانك الكلمات الواضحة والتي تفسر سر خلود هذا الألبوم وقدرته على تغيير فهم العالم لأمريكا: “كنت متعباً من الرومانسية، لذلك أظهرت الأشياء كما رأيتها، نقية وبسيطة”.
لقد استطاعت صور فرانك النقية والبسيطة أن تنقذ أمريكا من الأسطرة. أن تسحبها من يدها إلى حقيقتها. وتلك المسافة الهائلة بين الحلم والواقع استطاع أن يملأها فقط بضوءه.
ولكننا في محاولات احتيالنا على الزمن هل نريد فعلاً من الصور ما أراده فرانك. هل نريد الواقع أم الأسطورة؟
ثمة من يقف على الطرف الآخر: من يحاول أن يمتدح صورته الحقيقية بلا انعكاس. يقول غابرييل غارسيا ماركيز: “إنّ المرء يشيخ في الصور أكثر، وبصورة أسوأ، مما هو في الواقع”. لكن ماركيز واحد من أعظم الحالمين في العالم، وربما حين قال ذلك، كان في إحدى اللحظات المهيبة التي يحتوينا فيها الحلم فنضيع فيه ونصير أبعد عن أجسادنا وأقرب إلى اللغة. هي اللغة في مواجهة الضوء إذن. وهي محاولة ولو بطريقة معكوسة للقول، الجسد مازال على ما يرام.
في قصيدته الصور يقول الشاعر اللبناني شوقي بزيع:
“يهرع الناس نحو المصور عند اشتداد الخطر
يهرع الناس نحو المصور كيما يقيهم من الموت
كيما يجملهم من بثور الزمان
وزلزاله المنتظر”.
فعلى عكس ما رمى إليه ماركيز ثمة اعتراف صريح بالخوف، اعتراف أميل إليه شخصيّاً، ففي الطريق إلى الحلم لا بد من بعض الواقعية.
كلما تأملت صوري القديمة، أجد شخصاً آخر يعاتبني ويسألني:كيف تركتني؟ وأسأله أو أسأل نفسي: هل كنته حقاً؟
هل أنا من كان يقف يوماً على شاطئ البوسفور أو على حدود قلعة دمشق؟
هل كنت أحب يوماً ما تلك الألوان التي أرتديها في الصورة؟
هل كنت أقف أمام الكاميرا بتلك الطريقة الصبيانية؟
ربما، أو ربما شاب يشبهني، ترك ضحكته في إطار، وانشغل بأشياء أخرى، بعد أن تلاشى الصوت الخافت الذي كان يقول قبل برهة: واحد.. اثنان.