د . حسين عيسى – الناس نيوز ::
لعل الفعل الجنسي كما هو بذاته، بريء من أحكام القيمة فلا هو فاعلية موجبة لطرف ولا مفعولية سالبة لطرف آخر.
ولا يتضمن في ذاته إعلاء طرف ولا تبخيس طرف آخر. ولا هو أخذٌ من هذا الطرف لذاك ولا هو عطاء من هذا طرف لذاك لآخر.
ولعله الفعل الوحيد الذي يشبه وجهي الورقة الواحدة، لا وجود لأحدهما دون الآخر، ولا يمكن أن نأخذ منهما وجهاً ونترك الوجه الآخر.
فوجه الأخذ ووجهة العطاء هما الفعل الجنسي ذاته. الأخذ عطاء والعطاء أخذ في الوقت نفسه. غير أن المجتمعات البشرية عَقَدت على هذا الفعل، كما على أي فعل آخر، مجموعة من الرموز الثقيلة وشابكته واشتبكت عليه مجموعة من التصنيفات والقيم الاجتماعية، التي لا تنتمي له وليست من تكوينه ولا على علاقة مباشرة به.
وهكذا بعد أن أثقلت هذا الفعل بما ليس فيه، بات هذا الفعل ذاته واحداً من الأسباب الخفية اللاواعية لتبخيس قيمة المرأة وتبرير ضَهْدِها.
ونعرض فيما يلي بعضاً من هذه التصنيفات والقيم الاجتماعية، التي اندخلت عميقاً في صميم الفعل الجنسي حتى باتت من تكوينه:
أولاً، توزيع الفوق والتحت في معمارية المكان على سلم القيم الاجتماعية، فكل ما هو فوق منتصر، ظافر، قاهر، قوي، مهيمن، وبالتالي محط فخر وافتخار. بينما كل ما هو تحت مهزوم، مكسور، ذليل، دون، مُهيمن عليه، ضعيف، وبالتالي مذموم ومحط احتقار.
ثانياً، حصر مفهومي القوة والضعف، بالبنية الجسدية العضلية فقط، والمكانة التي يحتلها كل من هذين المفهومين على سلم القيم الاجتماعية. فالبنية الجسدية المذكرة “أعلى قدراً” من المؤنثة منذ فجر التاريخ، لأنها أقوى ولأنها هي التي تقاتل لحماية النساء والأطفال.
بينما رُبطت البنية الجسدية المؤنثة بالإغراء وإثارة الشهوة عند الذكور، أي بإشعال ما بات مدنساً وشيطانياً في نظر هذه المجتمعات، فاحتل الجسد المؤنث بجدارة موقع “الأحط قدراً والمدنس إنما المشتهى أيضاً”. وهدرت قيمة الجسد المؤنث، وقوة احتماله الأسطورية، وهو يصنع الحياة ويهبها، حَمْلاً وإنجاباً، باللجوء إلى حيلة خبيثة تمجد الأم والأمومة، لكنها تحط من قدر البنية الجسدية المؤنثة ككل. ومع أن عصر الثورات الصناعية ثم التكنولوجية والمعلوماتية ألغى هذه القيمة كلها. ونقل مفهومي القوة والضعف إلى حيز آخر، إلا أن كثيراً من المجتمعات مازالت تحتفظ بهما وترعاهما بحدقات عيونها.
ثالثاً، عند النظر إلى ظاهر الفعل الجنسي، سيبدو المذكر فاعلاً والمؤنث مفعولاً به. وهذا ليس عند البشر فقط، بل عند كل الكائنات. وبما المجتمعات البشرية منحت الفاعل قيمة موجبة أعلى وأجلّ من قيمة المفعول به السالبة، سيحتل المذكر موقعاً عالياً محترماً، في المجتمع لمجرد أنه مذكر، بينما سينبذ المؤنث ليحتل مكاناً واطئاً محتقراً، لمجرد أنه مؤنث.
رابعاً، الشكل الظاهري للأعضاء الجنسية، فالمذكر قوي، صلب، منتصب وعلني (ويذكّر بالسيف، أداة الطعن والقتل)، بينما يختبئ العضو المؤنث عميقاً في الجسد، مثل سر خفي وغامض، ولا يظهر منه إلا قليل لين، طري، يتوارى هو الآخر في زاوية يصعب بلوغها، كما لو أنه مذعور ومطارد بطبيعته.
وفوقها يبدو هذا العضو للناظر كأنه خلق مطعوناً بطبيعته، وما زال يحمل آثار الطعنة الطويلة والعميقة، التي تلقاها وهو بَعْدُ قيد التشكل، قبل أن يولد ويأتي إلى العالم.
ومعروف بين الذكور، أن الواحد منهم إن أراد توجيه إهانة مذلة لذكر آخر، شبهه بالعضو المؤنث، وهي شتيمة مقذعة وجارحة.
خامساً، يحدث الفعل الجنسي بمعظمه في داخل الجسد المؤنث، في جوانية المؤنث. بينما هو عند الجسد المذكر، هو فعله البراني الذي يحدث هناك، خارجه، تحته في عمق المؤنث.
وهكذا يغدو الجسد المؤنث، حسب هذا التصور، الطريدة وساحة المطاردة في آن معاً، المطعون وساحة الطعان. وكلنا يعرف كيف تشتغل شوارعنا، كمنصة حية، لبث هذا التصور على الدوام، حيث يتراشق الجميع بالشتائم الجنسية البذيئة، التي تنتهك كرامة الجسد المؤنث وحرمته، في الأم والأخت والزوجة والبنت، وحيث يتداول الجميع، بلذة غامضة، النكات الجنسية البذيئة التي تنصب بمعظمها تحقيراً على العضو الجنسي المؤنث والنوع المؤنث.
وهكذا يتراكم على النوع المذكر، في هذا التصور للفعل الجنسي، المبني على الظاهر وحسب، يتراكم كل ما يعده المجتمع إيجابياً سامياً وسماوياً، فهو الذي فوق، والمهيمن، والقوي، وفاعل الفعل الجنسي، والذي يملك عضواً كالسيف مخصصاً للطعن، بينما يُرمى النوع المؤنث، كل ما يعده المجتمع، سلبياً دونياً وترابياً. فهو الذي تحت، والضعيف، ومفعول الفعل الجنسي، والمُهيمن عليه، والذي يملك عضواً، كالغمد، ذليلاً متوارياً مطعوناً بطبيعته، ومخصصاً للطعن.
وهكذا تمسخ المجتمعات هذه التجربة الوجودية الخارقة، عندما تمسخ وجهيها، المذكر والمؤنث في آن معاً، وتحيل هذا الفعل الى فعل سلطة، لا أعذب فعل من أفعال كينونتنا ووجودنا.