وثائق الوكالة اليهودية في كتاب للباحث محمود محارب …

محمد برو – الناس نيوز :

منذ سنوات يكثّف الباحث الفلسطيني الدكتور محمود محارب حفرياته في الوثائق الإسرائيلية، المتوزّعة في “الأرشيف الصهيوني المركزي” و”أرشيف الهاغاناه”، وقد سبق له بدءً من عام 2008-2009 أن قدم مجموعةً من الأبحاث، تدور حول دور المخابرات الصهيونية وبدايات التجسس على العرب، وكيف عمل القسم العربي في الدائرة السياسية التابعة للوكالة اليهودية على اختراق العديد من قادة الكتلة الوطنية، وعن دوره في تجنيد نسيب البكري، وشقيقه يوسف، ليكون عميلاً مباشراً له، ويقف بالتفصيل على الخدمات المهمة التي قدمها نسيب البكري للوكالة اليهودية في تلك الفترة، كما يؤكد مؤازرة الوكالة اليهودية له، في سعيه الحثيث للوصول إلى رئاسة الحكومة السورية في عام 1939.

58 وثيقة أوردها الباحث في كتابه، وأرفقها بترجمة عربية، تشير إلى مدى الاختراق الذي مارسته الوكالة اليهودية، لتصنع لها أدوات تعزز مواقفها داخل الجسم السياسي السوري، لما له من كبير أثر في المسألة الفلسطينية آنذاك، ولم يقتصر ذلك على السياسيين؛ إنما تعداه إلى فضاء الصحافة والإعلام، ومن أهم تلك الوثائق التي يعتمدها د.محارب في كتابه، تقارير إلياهو ساسون، عن اجتماعاته مع جميل مردم بيك ولطفي الحفار ونصوح بابيل صاحب صحيفة الأيام.

وإلياهو ساسون صحفي يهودي مولود في دمشق، درس في الجامعة الفرنسية في بيروت، ثم عاد إلى دمشق للعمل في مهنة كانت بوابته الواسعة إلى عالم الساسة والقادة السوريين، الأمر الذي أفادت منه الوكالة اليهودية، فجنّدته في صفوفها، ومن ثم تمت ترقيته ليكون مساعداً لموشي شاريت، رئيس القسم السياسي في الوكالة اليهودية، والذي سيصبح أول وزير خارجية لاسرائيل . وكانت مهمة ساسون إجراء الاتصالات مع القادة السياسيين السوريين، وهو الذي رتّب اجتماعاً لجميل مردم بيك مع حاييم وايزمان وموشيه شاريت في باريس في العام 1936.

ليس هناك أدنى شكّ بمقدار الجهد الطويل الذي بذلته الوكالة اليهودية، في اختراق صفوف السياسيين السوريين، وما حصلت عليه من نتائج، إلّا أن العادة جرت في إطار الحرب الإعلامية والاستخباراتية، أن يتم تضخيم تلك النتائج بالطريقة الهوليودية، لترسيخ روح الهزيمة وتشويه التاريخ، بطريقة الأخ الأكبر في رواية جورج أورويل “1984”، وليس بدعاً في تاريخ الأمم أن يستطيع الخصوم أو الأعداء، اختراق بعض حصون الجسد السياسي أو دفاعاته في الجهة المقابلة؛ لكن الإيحاء، وإن لم تذكره الوثائق بشكلٍ جلي، أن الاختراق كان الحال الطاغية والمفسِّرة لما آلت إليه الأمور؛ ما هو إلاّ ضرب من ضروب التدليس.

معلوم أن الكثير من الساسة السوريين آنذاك، كانوا يأملون من خلال تواصلهم مع الوكالة اليهودية، خاصة عام 1936، أن يفضي ذلك لضغط اليهود على رئيس الوزراء الفرنسي ليون بلوم، كي يوقع على معاهدة الجلاء، التي وقّعها هاشم الأتاسي، سيما أن ليون بلوم ينحدر من أصلٍ يهودي.

وكما هي الحال اليوم في اللقاءات التي تجري بين أطراف مختلفة أو متنازعة؛ لا يمكن الحكم عليها ابتداءً بأنها شكل من أشكال العمالة أو التعاون، ويعرض الكتاب للعديد من مواقف سياسيين حضروا تلك اللقاءات مع الوكالة اليهودية، وظلوا على مواقفهم الوطنية، ولم يبدوا أي لين أو تعاون مع الوكالة، ومن أمثال تلك المواقف؛ موقف شكري القوتلي، الذي سعت الوكالة اليهودية لاغتياله في عام 1941، وكذلك فخري البارودي، الذي لعب دوراً في اللقاءات والمفاوضات الأولية، لكنه ما لبث أن ارتد عنها وحاربها، إلى جانب لفيف كبير ممن رفضوا بالأصل الاجتماع بممثلي تلك الوكالة ووسطائها.

تبقى هناك نقطتان جديرتان بالنظر؛ النقطة الأولى، أن الكثير من تلك الوثائق التي اعتمدها الكتاب تحتاج لإعمال النظر والنقد في محتواها، فشطر منها هو مجرد تقارير كتبها مندوبو الوكالة اليهودية وعملاؤها، ومن الطبيعي والشائع أن يبالغ المندوبون والعملاء في تضخيم الرواية، التي تبرز أهمية الدور الذي قاموا به، كما أن الوثائق تتضمن جملةً من التقييمات الشخصية، التي لا يمكن الاعتداد بها علمياً.

تجدر الإشارة إلى ان هذه الوثائق التي استخدمها الباحث محارب في كتابه كانت تتحدث عن الفترة ما قبل تأسيس دولة اسرائيل.

أما النقطة الثانية، فهي أنَّ اللقاء بين سياسيين سوريين ورموز للحركة اليهودية لا يمكن الحكم عليه دون النظر إلى ما نتج عنه، فقد حدث أن جرت لقاءات عدة بين عبد الرحمن الشهبندر، وبين إلياهو ساسون وحاييم وايزمان وموشي شاريت وآخرين، وكانت تلك اللقاءات تدور حول السعي لحلٍ ما في فلسطين، وفي لقاء الشهبندر بوايزمان في القاهرة 1938، كانت النتيجة تكريس الهوّة الكبيرة بين أطراف اللقاء؛ لأن عبد الرحمن الشهبندر يومها لم يقبل اعتراض حاييم وايزمان على إبقاء اليهود أقلية في فلسطين، ولم يوافق على رفع أعداد المهاجرين اليهود إلى فلسطين، خلال الخمسة أعوام المقبلة إلى ربع مليون يهودي.

يبقى الكتاب بوثائقه مادةً غنيةً لفهم بعض أوجه ما جرى، ومادةً مهمةً للدارسين؛ ليصار إلى تدقيق تلك الروايات التي حوتها تلك الوثائق، ومقارنتها بالوقائع التي تؤكدها أو تبدي زيفها.

يقع الكتاب في خمسة فصول، هي:

• المخابرات الصهيونية، بدايات التجسس على العرب.
• مفاوضات الوكالة اليهودية والكتلة الوطنية في سوريا.
• المقالات الصهيونية المدسوسة في الصحف السورية واللبنانية.
• من المفاوضات إلى الاختراق.
• العلاقات بين الوكالة اليهودية والقادة الدروز
  الكتاب: العلاقات السرية بين الوكالة اليهودية وقيادات سورية
  496 صفحة من القطع الكبير
  الناشر: دار جسور للترجمة والنشر – 2021.