ميديا – الناس نيوز ::
نشمي عربي – لندن – نوفمبر 2024 – أول مرة سمعت فيها باسم “فواز حداد” كانت لدى مشاهدتي لمقابلة تلفزيونية مع الصديق الفنان جمال سليمان، فعندما سُئِلَ لمن يقرأ هذه الأيام؟ ذكر عدة كُتَّاب، ولكنه نوَّه باهتمام خاص للروائي السوري فواز حداد، أثار الاسم اهتمامي لعلمي بمدى انتقائية الأستاذ جمال في كل شيء، فلابد أن يكون فواز حداد كاتباً متميزاً جداً ليتحدث عنه بالطريقة التي سمعتها منه.
للمصادفة، يرشح لي صديق بعد عدة أسابيع وبإصرار رواية “السوريون الأعداء” لأقرأها، وكانت وقتها آخر ما نُشِر للأستاذ فواز حداد، وكانت رحلتي معها مميزة جداً، فقد كانت أول عودة لي لقراءة الرواية الطويلة منذ ما يزيد عن ثلاثين عاماً، وأعترف هنا أنه رغم إعجابي الشديد بفن الرواية عموماً، كأحد أهم الآداب والفنون الرفيعة، إلا أنه كان هناك دوماً ما يجعلني أهابها، وأحذرها، لأسباب لم أجهد يوماً في تحديدها، وإن كنت اليوم أعتقد أنني أدركها.
السبب الأول والأهم هو أن الرواية فن يعتمد الخيال، وأنا بطبعي أميل للواقعية الشديدة، وربما بشكل مبالغ فيه أحياناً.
السبب الثاني ربما كان أكثر بساطةً، وعفويةً، فأنا بطبعي رجل ملول، وبرجي “الجوزاء” يخشى علاقة رتيبة كالتي تفترضها الرواية الطويلة، ومن هنا كان ميلي الفطري للمقالة، التي أجدها أكثر رشاقةً، وقدرةً على التبدل والتنوع، ومعاصرةً للواقع، خصوصاً بعد انتقالي للعيش في الولايات المتحدة بإيقاع حياتها السريع، الذي لا يسمح دوماً بِتَرَفِ الوقت الذي تحتاجه صحبة الرواية الطويلة.
إذا كان لأي علاقة مهمة أن تستمر معي، فيجب أن تحافظ على قدر من الإثارة والتنوع والتبدل، والتحفيز الذهني الذي يجب أن يتصاعد دوماً، ولا يتوقف أبداً، وهذا بالضبط ما فَعَلَتهُ رواية “السوريون الأعداء”، ومن اللحظة الأولى.
ليس فقط لأن “السوريون الأعداء” كَسَرَت دفعةً واحدة وبإصرار وجرأة المحاذير الثلاث في أي عمل أدبي أو فني عربي، (السياسة، الجنس، والدين)، ولكن لأنها فعلت ذلك بطريقة فنية رصينة غاية في التميز والإبداع، فتحدثت بالسياسة دون تنظير، وبالجنس دون ابتذال، وبالدين دون تجنٍ ( على عادة علمانيي الغفلة اليوم )، وعندما طرحت الرواية القضية الطائفية في سوريا، فَعَلَت ذلك بمقاربة وطنية وإنسانية، بعيداً عن أي تعصب وانعزالية، وبمباشرة وواقعية، ودون أي تجميل أو تورية.
تأثُّري الشديد بالرواية دفعني للكتابة عنها، ورغم أنني لم أدعِّ يوماً أية مقدرة في النقد الأدبي، إلا أن ما كتبته ونشرته لاقى وقعاً طيباً عند الأستاذ فواز، الذي لا زلت أذكر ما قاله لي وقتها تعليقاً عليه: “أنت استطعت فك الشيفرة التي استخدمتُها في هذه الرواية”.
توطدت بعد ذلك علاقتي (عن بعد) بالأستاذ فواز، فهو يقيم في لندن، وأنا في واشنطن، وبتُّ من متابعي مقالاته على أكثر من موقع ( الناس نيوز الأسترالي الذي رشحني للكتابة فيه ) ، وأصبح مشكوراً من متابعي المتواضع الذي أنشره، وأعترف هنا أن تشجيعه المستمر كان وراء انتقالي من حالة النشر المتقطع إلى النشر شبه الرتيب، وفي الوقت الذي يوفر فيه المناخ السوري على امتداد العالم وبمنتهى الكرم والأريحية كماً لا يستهان به من الطاقة السلبية والإرهاص والتثبيط، كان فواز حداد بمتابعته المستمرة لما أنشره، وتعليقاته عليه، على العام وعلى الخاص، قوة دفع جبارة كان لها الفضل في تثبيت مسيري المتردد على سكة الكتابة.
مع السوري فواز حداد تعلمت أن الاتفاق ليس ضرورياً في كل القضايا، ولكنني تعلمت أيضاً أن للاختلاف أدبه وأخلاقياته، وفي بعض المرات القليلة التي كانت هوة الاختلاف أوسع قليلاً، وتعاملي معها (كتابةً) لم يخلُ من بعض الحدة، حافظ الأستاذ فواز على مكانته السامية وأخلاقياته الرفيعة، وكان دائماً المَعِينَ الأكبر الذي يتسع للجميع، والصدر الأرحب الذي يستوعبهم.
مررت بلندن مرات عديدة خلال السنوات الأخيرة، دون أن تتاح لي فرصة الالتقاء بالأستاذ فواز، ولكن عندما طرأت لي رحلة عمل مفاجئة الأسبوع الماضي، اتخذت قراراً بأن أبقى يوماً إضافياً للقائه، إن كان وقته يسمح بذلك، وقد كان كريماً كعادته بأن أعطاني من وقته الثمين فرصةً كنت أحلم بها منذ سنين.
أن يستولي كاتب أو فنان أو روائي أو حتى سياسي على وجدانك بفكره وقلمه ونتاجه شيء، وأن تلتقي به وجهاً لوجه فهو أمر آخر، خصوصاً عندما يكون الكاتب بحجم وقيمة السوري فواز حداد، أدركت ذلك وأنا في طريقي للقائه، ومع كل توقف لميترو لندن على خط البيكاديللي الطويل، كنت أستعيد مشهداً من “السوريون الأعداء” أو مقالاً من مقالات الأستاذ فواز، ولكن الأمر لم يتوقف عند ذلك، بكل بساطة كان الشعور الذي استولى علي هو أنني ذاهب في رحلة قصيرة إلى دمشق، تحديداً إلى حي (سوق ساروجة) الذي للمصادفة هو الحي الذي نشأنا فيه كلانا.
عندما تجلس في حضرة الأستاذ فواز حداد، تتداعى لك سوريا كلها، وإن كان بخصوصية دمشقية لافتة، وعندما تستمع لصوته الهادئ الرتيب، تدرك فيه بَحَّةَ بردى، وفي عينيه ترى أنوار مآذن الأموي.
كان كعادته كريماً وسخياً في تلك الظهيرة اللندنية المشمسة على غير العادة رغم بردها، وحدثني عن تجربة الاعتقال في سن مبكرة جداً (15 عام) بعد انقلاب البعثيين على الناصريين عقب حركة 18 تموز 1963, رغم أنه لم يكن عملياً في أي من الفريقين، وعن الظروف التي قادته للكتابة، وعن ظروف خروجه من دمشق مع بدايات المأساة السورية، وكيف كان يتوقع العودة خلال أقل من عام، أو عام على الأكثر.
لم يكتفِ الأستاذ فواز بوقته الثمين الذي تكرم علي به، ولا بصراحته اللامتناهية في كل ما تحدثنا عنه، بل امتد كرمه لأن أهداني نسخة ورقية من روايته الأخيرة (جمهورية الظلام) موقعه منه بإهداء شخصي لي، كانت رفيقي في رحلتي من لندن إلى واشنطن اليوم التالي.
من اللقاءات ما يجعل لندن الباردة أكثر ألفةً ودفئاً، ومن الروايات ما يجعل المسافة بين لندن وواشنطن وكأنها بين الجسر الأبيض وساحة عرنوس.