محمد الرميحي مؤلّف وباحث وأستاذ في علم الاجتماع بجامعة الكويت – الشرق الأوسط – الناس نيوز :
في وقت حرج للإقليم وللكويت يغادر صباح الأحمد هذه الدنيا مصحوباً بحسرة كبيرة من الكويتيين والعرب وغيرهم ممن عرفه كشخص أو عرف الكويت كدولة، فله أثرٌ لم يمحَ. وأي كلمات تكتب في حقّه مهما كانت جزلة ومعبرة، لن تعطيه حقه في سبر متابعة عمل عام محلي وإقليمي وعربي ودولي دام عقوداً طويلة قامت به هذه القامة العالية.
شخصياً تعاملت مع هذه الشخصية المتواضعة والحكيمة في أكثر من ملف، فكان الرجل المهاب في ثوب المحب، والمسؤول في ثوب الوالد، والحازم في رجل الدولة. آخر مرة قابلته كان بعد ندوة عقدناها في رحاب المجلس الوطني للثقافة، وكانت عن فضّ النزاعات وأعمال الإغاثة… في اللقاء جرى الحديث عن الماضي وعن الإعلام، ذكرته بالقول: «تذكر سموّك لما سلَّمتني وأنت وزير إعلام مسؤولية مجلة (العربي) أوائل الثمانينات، وقتها قلت لي إنَّ (الإعلام يجرح ويداوي)، قال بعفوية: ذلك أيام الإعلام التقليدي أمَّا اليوم، وهو يضحك (فالإعلام يجرح ويجرح بسبب شيوع وسائل التواصل الاجتماعي)». وكان على حق، هو مسهب في الحديث ودبلوماسي، ولكن ليس بالشكل التقليدي.
الصراحة عنده تتعدَّى التحفظ والمداراة، خاصة عندما يصل الأمر لاتخاذ موقف تتوارى أمام قول الحقيقة.
نفتقده اليوم وهو الرجل الذي دأبَ بجد على رأب الصدع العربي في كل المحطات التي شهدت الخلافات العربية، وحرصه على الصف العربي نابع من فهمه العميق لموقع الكويت الاستراتيجي، فهي تنتعش وتأمن في ظل توافق عربي وإقليمي واسع، وتقلق في ظل الخلافات والتمزق. يغادرنا اليوم والعقد العربي قد انفرط، والعقد الخليجي يكاد يتبعه، كم هو أسف على ما وصلنا إليه. عملت معه ومع عدد محدود من الزملاء في كتابة الأوراق الأولى لفكرة مجلس التعاون، كان حريصاً أن تتابع الفكرة حتى تنضج، كانت هي فكرة الكويت والنابعة من الفهم الذي ذكرت، أن التعاون هو أفضل سبل للنجاة في خضم طوفان التغيرات الكبيرة من حولنا.
دأبه على لمّ الشمل قديم، فقد حمل في طائرته في السبعينات مجيب الرحمن الزعيم البنغالي إلى باكستان الشرقية طلباً للصلح بين الشطرين بعد أن وقع الفراق بينهما، وعمل جاهداً مع الرئيس عبد الناصر لتقريب وجهات النظر مع دول عربية تقطعت بينها وبين مصر السبل، وطاف بطائرته العالم إبَّان الحرب العراقية الإيرانية لتجميع الآراء حول أفضل السبل لوقفها. لقد كان هناك في رأب الصدع اللبناني، وكما كان هناك في رأب الصدع اليمني بين الشطرين وقتها، كما رعى برنامجاً من أفضل برامج التنمية وهو الهيئة العامة للخليج واليمن، التي اهتمت بإنشاء المدارس والمستشفيات لأهلنا هناك. أكبر هواجسه الخلافات العربية، لأنَّها ضرر مستطير لسلام الإقليم وأهله، ومدخل للتدخلات الخارجية وضعف للجميع. هو بحق يمكن أن يطلق على أعماله أنه (رجل المصالحات) وكان صادقاً وعفوياً في ذلك.
في الداخل الكويتي كان عضداً نصوحاً لأخويه المرحوم جابر الأحمد والمرحوم الشيخ سعد العبد الله. في وقت ما ترك المنصب الرسمي وكنا في زيارة له، قال له أحد الزملاء: هل تكتب مذكراتك التي هي بالتأكيد غنية، ابتسم وردَّ برد سريع قائلاً: «تركت الحكومة ولم أترك الحكم!».
منذ تقلده الحكم قام بإصلاحات مشهودة، أولها أنه فصل ولاية العهد عن رئاسة الحكومة، وأصبح رئيس الحكومة نظرياً تحت المساءلة الشعبية، بعد أن كان محصناً كولي للعهد.
اجتهد لتكريس حكم القانون في كل الملفات الشائكة التي مرت بالكويت، واستمرَّ في الوقت نفسه يطبق استراتيجيته (رأب الصدع وتقديم الحكمة على الشطط)، لذلك أصبح له موقع في الإقليم محترم وفي العالم.
ولعله آن الوقت لذكر قصة كانت طي الكتمان منذ سنوات. فقد طلب أحد المسؤولين الأتراك منذ سنوات مقابلة عاجلة مع صباح الأحمد، ولما قدم في رحلة بعيدة عن العلن، كان لقاؤه مع عدد محدود من الخاصة، قال القادم التركي: نريدك بما أوتيت من حكمة أن تتدخل لدى السيد طيب إردوغان بأن يسمع للمختصين والمخلصين حوله، لأنَّه يتصرف في قضايا كبرى بطريقة نحن نرى فيها ضرراً للمصالح التركية… استمع الرجل للرأي وقال: «تلك أمور داخلية لا يحق لي أن أتدخل فيها مع شكري لكم بالزيارة والثقة».
المقصد هنا هو البحث عن الحكمة والروية التي امتاز بها الرجل السياسي والمتواضع والمنجز صباح الأحمد. لقد عمل جاهداً في ملف حقول المرأة الكويتية وكذلك الإصلاحات الداخلية التي أصبحت اليوم مشهودة في الكويت، وعمل أيضاً في ملف الثقافة، ويكفى القول إنَّ مجلة «العربي» وُلدت على يديه، وكشخص قضى في إدارتها ما يقارب الثمانية عشر عاماً، أشهد أنَّه في كل مرة يشتكي فيها نظامٌ على ما نشر في مجلة «العربي» يستدعيني، وبشهادة مدير مكتبه وقت ذاك السفير سليمان ماجد الشاهين ليستفسر هو شخصياً عن الموضوع، ولكنَّه كان أكثر حرصاً على الاستمرار وعلى سقف الحرية الذي تتمتع بها مجلة «العربي»، لذلك فإنَّ رحيله في الوقت الصعب يثير الكثير من اللوعة والحسرة والدمعة. رحمك الله وأبقى من بعدك على سيرتك لأنها سيرة الكويت.