د . محمد حبش – الناس نيوز ::
لا أعتقد أن الحكومة السورية تنتظر نصائحي، فقد اختارت مجتمعاً منسجماً، يهتف للنصر العظيم الذي حققه العسكر على الشعب الإرهابي!! وهو النصر الذي كان يهدف لتحرير الأرض المحتلة في الجولان ومساحتها 1.2كم2 ولكنه انتهى بضياع 86 ألف كم2!! وباتت تنذر بتقسيم سوريا إلى أربع كيانات متلاعنة، وجيوش رسمية ستة تقيم قواعدها العسكرية على الأرض السورية، وانهيار تام في الاقتصاد ينزل ب90% من الشعب السوري تحت خط الفقر وفق بيان الأمم المتحدة، وفقدان العملة السورية ل98% من قيمتها في مشهد محزن مؤلم.
أما نصف مليون ضحية وعشرة ملايين شريد فهي أرقام هامشية لا تشوش على هذا النصر العظيم.
على كل حال لا أريد ان أضم هذا المقال لسلسلة المقالات اللطمية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولكنني أفكر تماماً كمراقب وكمواطن يريد لهذا الوطن الخلاص ويريد لشعبنا العافية.
الحقيقة القاطعة أنه لا قيام لوطن لا يجرؤ أبناؤه على دخوله، ولن يحضر استثماراً حقيقياً إلى وطن يخاف أبناؤه من الاعتقال على منافذ الحدود.
ومع ذلك دعني أتحدث كرجل مارس الحياة العامة والبرلمانية لعقد من الزمن، ولو كنت مسؤولاً في حكومة دمشق، فإن أول عمل أدعو إليه هو تأسيس وزراة العودة والعهدة بها إلى فريق مدني بصلاحيات واسعة أولها سلطة الرقابة على منافذ الحدود، ووقف المطالبات والمطاردات الأمنية التي باتت أكبر قلق يحول دون الناس والعودة.
إنني أشعر بالحرج وأنا أكتب عن حق العودة فهذا المصطلح ارتبط تاريخياً بآمال الشعب الفلسطيني الشريد الذي جاءت قوة احتلال غاشمة فاغتصبت أرضه وألقته في الشراد، وبعد جولات من الصراع الماحق بدأ الفلسطنيي تفكيره الطبيعي في العودة إلى وطنه وأرضه، ولكنه راى شعوباً غريبة على أرضه السليبة، وبات ملايين الفلسطينيين ينتظرون إذن الدخول ليعودوا لبيوتهم وأراضيهم وأملاكهم أياً كان مشهد الحل السياسي، ولكنهم فوجؤوا بأنهم يفكرون بمطالب مستحيلة وأنهم سيكملون السنوات الباقية من حياتهم على شاطئ الأحلام وفي أطلال الوعود المنكوبة.
لم أكن أتوقع أن تتم مقارنة المشهد الفلسطيني بالحالة السورية، ففي سوريا ليس هناك شعب وافد مكان شعب بل هو خلاف سياسي مع حكومة شمولية استبدادية ولكنني لم أتوقع أبداً أن تصبح نظرة السوري إلى وطنه هي نظرة الفلسطيني إلى يافا وحيفا وصفد، وأن يكون نصيبه من أرضه وبيته وإرثة هو مفتاح البيت الذي وضعه الجد في جيبه قبل خمسة وسبعين عاماً على وعد اللقاء.
العودة إلى سوريا هي حق مشروع، وأعتقد أنه قد حان الوقت بتأسيس جمعيات حق العودة، العودة إلى الوطن المسروق بغض النطر عن الحل السياسي، فليس شيء أنفع لنظام الاستبداد من بقاء المشردين بعيداً، والاكتفاء بالمجتمع المنسجم الذي أفرزته الحرب، ولا توجد لديه أية مشكلة في ممارسة أبناء وطنه البكاء على الأطلال وحديثهم عن عدالة قضيتهم طالما ظلوا غير قادرين على الوصول إلى مدنهم المنكوبة.
كان يفترض أن يكون حق العودة عنواناً للحكومة السورية، وأي حس وطني كان يجب أن يفرض تأسيس وزارة العودة وأن تكون برامج رحلات العودة معلنة في جميع وسائل التواصل بمشاركة الأمم المتحدة والجامعة العربية، وأن يتم تنظيم احتفالات ومهرجانات للعودة، والمصالحة الوطنية والغفران.
أليس الإرهاب وفق الرواية الرسمية للنظام هو الذي شرد السوريين؟ فلماذا إذن لا نحتفل ببرحيل الإرهاب وعودة الناس إلى حياتها ومشاركتها وبناء بلدها؟
يقف السوري على أطلال وطنه المتكسر ولديه القوة والقدرة والإرادة للعودة والتنمية والبناء ولكنه موقن أن العودة تبدأ من فروع المخابرات وأقبيتها الجهنمية، حيث لا محامي ولا قانون، ولا مرافعة ولا مخاصمة، أمام هيئة صماء تعتبر نفسها مكلفة بتوفير سجون لائقة لسبعة ملايين سوري خرجوا من بلادهم لأسباب مختلفة وكثير منهم طلب اللجوء في بلاد الأعداء (بالطبع كل دولة قطعت علاقاتها مع النظام فهي عدو)، وطلب اللجوء بحد ذاته سيدرج بكل بساطة في إطار التخابر مع الأجنبي والتواصل مع العدو، وكل ذلك يعني حكماً مخاطر لا تنتهي من زج الناس في سجون ومحاكمات قد تنتهي بالإعدامات بدون أي وخزة ضمير.
لا أفهم الحياة نزاعاً بين حق مطلق وباطل مطلق، ولا يمكن أن نتصور الضفة الأخرى خالية من الضمير، فقد ارتكب الكل بطش الجلاد وذاق الكل معاناة الضحية، وحان الوقت لندمل الجراح ونعيد استئناف الحياة.
قدم النظام عدداً من قرارات العفو تجعل كل الأحكام القديمة بلا استثناء لاغية وباطلة، وقد بقي أن يقدم خطاب ثقة بمشاركة أصدقاء سوريا ليعمل الجميع لعودة الناس بثقة ومحبة ورسائل طمأنينة علنية يسمعها العالم كله ويراقبها ويفرح بها كل غيور على سوريا من الأمم المتحدة والجامعة العربية ودول الجوار؟
لن يطمئن مستثمر في وطن لا يطمئن فيه أبناؤه، ولن يتعافى السوري حتى يعود له نصفه الثاني، كالجسد الواحد إذا أصيب منه عضو تداعى له الجميع بالسهر والحمى.