منذ أيام قليلة شيّعت الطائفة الشيعية في لبنان السيدة زينب خليلي، زوجة الإمام “الغائب” موسى الصدر، مؤسس حركة أمل. جميع وسائل الإعلام اللبنانية التي نقلت الخبر أصرت على استخدام صفة “زوجة الإمام الصدر” بدلاً من أرملته، باعتبار أن أنصار الرجل يعتبرونه “مغيّباً”، ويعتقدون أنه ما زال على قيد الحياة، بعد 43 سنة على اختفائه. ما يزال لغز اختفاء موسى الصدر يشغل بال الكثير من المؤرخين والصحفيين، حيث يظنّ كثيرون أنه احتجز في ليبيا بعد لقاء عاصف مع العقيد معمر القذافي في صيف العام 1978. الحكومة الليبية يومها نكرت الأمر وأكدت أنه غادر طرابلس مع رفاقه متجهاً إلى إيطاليا، نافية فرضية بقائه في ليبيا. وعندما سقط النظام الليبي سنة 2011، حاول أنصار موسى الصدر البحث عنه في سجون القذافي، ولكنهم لم يجدوا له أي أثر، ما يعزز فرضية مقتل الرجل والتخلّص من جثته، ربما تذويباً بالأسيد كما كان جمال عبد الناصر يفعل في مصر وسورية (وهو ملهم معمر القذافي وقدوته في الحياة).
لولا موسى الصدر طبعاً لما كانت حركة أمل وما كان حزب الله. ولد الرجل في مدينة قمّ الإيرانية سنة 1928 ودرس في مدارسها ثم في النجف في العراق، حيث مكث حتى وقوع الانقلاب على الأسرة المالكة سنة 1958. عاد إلى العراق قبل أن يشدّ الرحال إلى لبنان سنة 1959، بحثاً عن زعامة وأرض خصبة لتحقيق مشروعه السياسي والشخصي. استطاع الصدر أن يتوج نفسه ملكاً على المجتمع الشيعي، الذي كان في أشد الحاجة إلى شخصية قيادية تمثل طموحاته السياسية. كان المسلمون الشيعة وحتى ذلك التاريخ يتبعون لعائلات إقطاعية كبيرة، من آل الحسيني وآل حمادة والأسد، لا برنامج ديني لهم بالمطلق ولا طموح كبير إلا رئاسة مجلس النواب وبعض الحقائب الوزارية. وكانت الطائفة الشيعية يومها تُعتبر درجة ثانية بالمقارنة مع السنة، لها هموم ومطالب لم تجد أذناً صاغية في أروقة الحكم في بيروت. أسس الصدر المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، وكان أول رئيس له سنة 1969، وبعدها بخمس سنوات، أطلق “حركة المحرومين”، المعروفة بأمل، التي لاقت رواجاً كبيراً عند الفقراء من أهالي الأرياف.
إنشاء ضاحية بيروت الجنوبية
وقد لعب موسى الصدر دوراً محورياً في نقل شيعة جنوب لبنان إلى ضاحية بيروت الجنوبية، التي أصبحت اليوم معقلاً لحزب الله. ولكن هذه المنطقة كانت وحتى نهاية الخمسينيات منطقة سنية ومسيحية بامتياز، لا وجود للشيعة فيها. جاء بهم الصدر لكي يشاركوا في الانتفاضة الشعبية ضد حكم الرئيس كميل شمعون، المحسوب على الغرب، وكانت البداية مع مجموعة قليلة من الشيعة، استوطنوا منازل الضاحية الجنوبية وأسسوا فيها بيوتاً، كما أنجبوا الكثير من الأولاد، ليزداد عددهم بشكل ملحوظ ويتحول مجتمعهم إلى “كوميون شيعي” في خاصرة العاصمة اللبنانية. وكان ذلك بعمل ومعرفة ودعم من قادة لبنان السنة، مثل الرئيس صائب سلام، الذي وجد في الشيعة “فيول” يمكن إحراقه في المواجهات الدامية مع الرئيس شمعون.
الربط مع ثورة الخميني
وعندما حدث الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان سنة 1978، نزح الكثير من الشيعة إلى بيروت وتوجهوا إلى المنطقة الوحيدة التي وجدوا فيها أهلاً وأقارب، أي في ضاحية بيروت الجنوبية. أقاموا في تلك الأحياء وكبر مجتمعهم حتى صار هم الغالبية السكانية في تلك المنطقة. الإمام الصدر نفسه مات… أو غيّب… قبل أن يرى كل ذلك الإنجاز، وكانت آخر مرة يراه في يوم 31 أغسطس/آب 1978، قبل أشهر معدودة من نجاح ثورة الإمام روح الله الخميني في طهران.
خلال مسيرته السياسية، لعب الصدر على عواطف المسلمين الشيعية، وعلى فكرة المحرومين التي قام بابتكارها قبل أن يطورها الإمام الخميني سنة 1979. وبحسب كل من عاصره كان الإمام الصدر رجلاً واسع العلم والمعرفة، له اضطلاع كبير على تجارب العالم ومنها على تاريخ الحركة الصهيونية. ويبدو أنه استلهم من الصهيونية فكرة “المظلومية”، ليُخرج بها شيعة لبنان والعالم من “الغيتويات”، تماماً كما فعلت الحركة الصهيونية مع يهود أوروبا، ليقودهم من قاع المدن إلى صدارة المجتمع. وقد أكمل في هذا المسار الإمام الخميني وجعل من “الخمينية” سلاحاً وحزباً لتقوية النفوذ الشيعي في العالمين العربي والإسلامي، معتبراً أنه يقوم بتصحيح ما فعله الدهر بالشيعة من حرمان وظلم تعرضوا له من قبل المسلمين السنة والمسيحيين من زمن الدولة العثمانية. وقد يكون الخميني قد استلهم فكرة الوليّ الفقيه من الكنيسة الكاثوليكية، عندما نصّب نفسه ممثلاً عن رب العالمين على الأرض، حيث يقوم البسطاء بالتواصل مع الخالق عبر الخميني في إيران، وعبر البابا في الفاتيكان. من يعود إلى هرمية الكنيسة من جهة وهرمية نظام الوليّ الفقيه يجد الكثير الكثير من التشابهات التي يصعب أن تكون مجرد توارد خواطر أو صدفة.
لم ينتبه أي من زعماء السنة يومها إلى هذا الأمر الخطير، حيث كانوا يشعرون أنهم ليسوا بحاجة لأي قائد يجمعهم، فهم موجودون منذ فجر الإسلام وباقون بسبب تاريخهم الطويل وتعدادهم، فلا داعي مثلاَ لإيجاد مرجعية واحدة لهم ولا للتكاتف أمام التغيرات السياسية والعالمية، فهذا عادة يكون شأن الأقليات فقط. الأقليات هي التي تبني أسواراً عالية حولها لحماية نفسها من الأخر، وتخطط للمستقبل بعناية، نتيجة دروس قاسية وضربات تلقتها عبر الزمن، إما من قبل حكومة ما أو طائفة أخرى. هذا الشعور الجماعي بالاضطهاد ساهم في تعزيز روابط عند الدروز والعلويين والشيعة والإسماعيليين والمسيحيين بكل طوائفهم، ليحموا عاداتهم وتقاليدهم وأسرارهم من اضطهاد الآخرين وليضمنوا استمراريتهم في هذا المشرق العربي. لم يُشكل السنة يوماً أقلية ولم يتعاملوا مع نفسهم على هذا الأساس: هم أمة، أو بحر، يتفرع عنه مجموعة من الأنهر من المذاهب والطرق، فلا داع أن يخافوا على مستقبلهم أو يخططوا كثيراَ له، فالشعور بأنهم بأمان أزلي في بلادهم كان دوماً هو السائد.
دعونا نتوقف قليلاَ مع تجربة الصدر أولاً ومن ثم عند تجربة الإمام. فقد ظهر كلاهما على مسرح السياسة في بلاده بعد سنوات من المنفى ليقود جمهوره من السجون والمعتقلات الى مفاصل الدولة اللبنانية والإيرانية، مستثمرين في شعورهم الجماعي بالظلم والتهميش الممنهج من قبل أهل السنة. ناداهم الإمام الصدر بالمحرومين والمظلومين، ووعد بنصرتهم على كل من آذاهم عبر التاريخ، وحقيقة هكذا فعل. فقد أسس الصدر أولاً والخميني من بعده مرجعية لأهل الشيعة، تشبه إلى حد بعيد مرجعية بابا الفاتيكان ومرجعية الآغا خان للطائفة الإسماعيلية، لها سلطة إلهية لا تناقش، ولا يشكك بقراراتها المصيرية. في نفس الوقت الذي كان الخميني يخطط ويبني لدولته كانت الأمة السنية يتيمة دون زعيم يذكر بعد وفاة جمال عبد الناصر في مصر، وقد فشلت بإيجاد زعيم حقيقي من بعده، يجمع حوله الملايين. ففي العراق مثلاً، لم تظهر شخصية سنية لقيادة المجتمع مثل صدام حسين، وفي لبنان لم تظهر شخصية سنية لخلافة رفيق الحريري، مما جعل سنة لبنان يلتفون حول ابنه سعد، الفاقد لأي من صفات أبيه، بسبب عدم وجود أي بديل آخر. وفي سورية فشل الحراك الشعبي في إفراز شخصية سنية جامعة وقوية، باستثناء أبو محمد الجولاني وأبو بكر البغدادي، الذي قال للناس إنه الخليفة المنتظر والزعيم، أو “رئيس” دولة السنة في العالم. وقد حاول البغدادي جاهداً أن يُعيد تجربة الصدر في لبنان والخميني في إيران، ولكن مع جمهور من أهل السنة، وأن يعطيهم وزناً سياسياً ومالاً وفيراً وقائداً ليتبعوه، مستفيداً من عدم وجود أي قائد آخر يحمل مشروعاً متكاملاً في الحكم. وللحق فقد حاول ملوك آل سعود أن يفعلوا ذلك من قبله، ولكن الوهابية كانت عائقاً، كما كان السن المتقدم لجميع ملوك السعودية، ابتداء من المؤسس عبد العزيز وصولاً إلى الملك سلمان. وقد حاول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن يفعل ذات الشيء، وحقق نجاحاً كبيراً في الكثير من المطارح، ولكن قضية اللغة بقيت عائقاً في وجهه، مع حقيقة لم يتمكن من تجاهلها وهي النزاع التاريخي المتجذر بين القومية التركية والعرب.
من المستفيد؟
إن وفاة زوجة الإمام الصدر تعيد إلى الأذهان دوره الكبير في نصرة شيعة العالم الإسلامي، وتفتح ألف سؤال عن قضية اختفائه الشهير. نحن لا نستبعد فرضية تصفية الرجل من قبل المخابرات الليبية، سواء كان ذلك بعلم من معمر القذافي أم لا، ومن المؤكد أن القذافي كان مجرماً سفاحاً قادراً على تصفية أي شخص لا يعجبه أو يتعارض مع مشروعه. ولكن موسى الصدر لم يكن يشكل أي تهديد بالنسبة لمعمر القذافي، فلا طموح له داخل ليبيا ولا منافسة بينه وبين القذافي، لا على زعامة الشيعة أو السنة. وفي أي جريمة يسأل المحقق أولاً: “من المستفيد؟” ولو طرحنا هذا السؤال في قضية اختفاء…أو مقتل الإمام الصدر، لاستبعدنا فوراً العقيد القذافي ووجهنا أنظارنا إلى الداخل اللبناني، وتحديداً إلى الجيل الجديد من المسلمين الشيعة الذين وجدوا في موسى الصدر عائقاً أمام تقدمهم في صفوف المجتمع والماكينة الحزبية في حركة أمل. أحد هؤلاء المستفيدين طبعاً كان نبيه بري، الذي تبوأ زعامة شيعة لبنان بعد غياب الصدر وبنى مجداً لنفسه في محاولة الكشف عن مصيره. لولا غياب الصدر لما كان نبيه بري يحلم بقيادة حركة أمل… ولولا وجوده في سدة حركة أمل، لما كان حزب الله.
أمير سعادة