د. موسى الحالول – الناس نيوز ::
/قصة قصيرة/ كان يسير على يمين الطريق في أحد أطراف المدينة كالهائم على وجهه من شدة البرد والجوع والإرهاق. كان يجاهد ليغطي جسده الناحل بما تبقى على هيكله العظمي من أسمال. تجاوزته سيارةٌ فارهةٌ كانت تسير الهُوينى، ثم توقفت فجأةً وأطل من نافذتها الخلفية اليمنى رأسٌ جميلٌ له وجهٌ وضيءٌ. كانت صاحبة الوجه ترتدي خِماراً زاهيَ الألوانِ، ونظَّارةً شمسيةً كبيرةً تكاد تُخفي كامل قسمات وجهها.
- يا أخ!
- سابقاً، يا مدام.
- يا أخ، أريدك في خدمة.
- وأي خدمة يمكن أن يسديها جربوع إلى سيدة مثلك؟
رفعت نظارتها عن وجهها، وسألته:
- عفواً، هل جربوع هو اسمك؟
- لا، بل لقبي الذي اكتسبتُهُ عن جدارة واقتدار.
- ألا تذهب معي إلى البيت وتحكي لي كيف اكتسبتَ هذا اللقب؟ يبدو أن لديك حكايةً مُسَلّيةً تقصها عليَّ.
***
أبدى ممانعةً شديدةً في البداية، لكن صقيع ممانعته ذاب مع دفء إلحاحها وغُنْجها. كما أنها وعدته أن الخدمة التي تريدها منه ستكون مدفوعةَ الأجر. فتحت له الباب ثم انزلقت نحو اليسار لتُفْسِح له مكانها ولتكون هي خلف السائق مباشرةً. أحس بالحرارة اللذيذة التي خلَّفتها عَجِيزتُها الفارهةُ على المقعد الوثير، فأحيت في أعماقه بوادرَ حنينٍ إلى أيامٍ ظنَّ أنها ولَّت إلى غيرِ رجعة.
- أنا مدام رابية. لكن، قل لي مَن سمّاكَ جربوع؟
- حماتي السابقة! هكذا صار اسمي عندها بعد أن طُرِدت من عملي، وطلقتني من زوجتي، وأخذت أولادي، وصرت عاطلاً مشرداً أفترش الأرضَ وألتحف السماء.
- مسكين، يبدو أن الحياة ظلمتك.
- مدام، أتمنى لو تخبريني عن طبيعة الخدمة التي تريدينها مني.
غمزت له بغنج، ورفعت سَبَّابتها اليمنى الأنيقة إلى شفتيها المكتنزتين لتُفْهِمه أنها لا تستطيع أن تتحدث عن هذا الأمر الخاص أمام السائق. نبتت لخياله أجنحةٌ حملته على صهوة الرغبة المحمومة الآثمة. تخيل نفسه وإياها يتقاسمان فِراشاً من الغرام. استحوذت الصورةُ المتخيلةُ على تفكيره. قرَّب عدسة خياله أكثر فأكثر حتى أجفل مستنكِراً نَشازَ ما رأى: هيكلٌ عظميٌ يُواسِد خَوْداً عَبيلة!
لا، لا، القبر أليَقُ بعظامك، يا جربوع!
***
لم تكلمه طوال ما تبقى من الرحلة إلى بيتها. فتح لهم الحارسُ العجوزُ بوابةَ العِزبة الفاخرة على شاطئ البحر غيرَ بعيدٍ عن أطراف المدينة، وحيَّا سيدته بأن تَنَكَّبَ بندقيته كما يفعل الجنود حين يمرون أمام المنصة التي يقف تحتها قائدُهم الأعلى. توقفت السيارة أمام باب العِزبة العالي، وكان من خشب الساج وتتوسطُ درفَتَيْهِ ألواحٌ متناظرةُ الحجم من الزجاج الملون الباذخ. أشارت إليه المدام رابية بالنزول من جهته، ثم نزلت هي من جهتها، وصرفت السائقَ. طوَّقت خصرَه بِيُمناها وهما يصعدان الدرجاتِ السبعَ إلى مدخل العِزبة. كانت تخشى أن يتهاوى على قفاه، وهو يصعد الدرجات، قبل أن تقضي منه وَطَرَها. أما هو فقد سَرَت في جسده قشعريرةٌ لذيذةٌ كتلك التي أحس بها قبل نصفِ ساعةٍ حين سرت حرارةُ عَجيزتِها التي ورثها عن مقعدها لمّا أركبته مكانها في السيارة. فتحتِ البابَ على صالةٍ دافئةٍ، واسعةٍ، فاخرةِ الأثاث. وبينما هو منشغلٌ في دراسة تفاصيل الثراء الذي هبط في وسطه، التقط بطرف عينه اليسرى كتلةً سوداءَ تتدحرج نحوه من أعلى الدرج المقابل للباب. صرختْ سيدةُ العزبة بتلك الكتلة المتدحرجة التي راحت تنبح بهياجٍ وعدوانيةٍ:
- رَيْحان! مكانَك، رَيْحان!
كان رَيْحان كلباً أسودَ هائلَ الكتلةِ مخيفاً.
- لا تخف، يا أخ … عفواً، نسيتُ أن أسألك عن اسمك الحقيقي.
- لم يعد اسمي الحقيقي مهماً اليوم. ولا بأس أن تناديني جربوع، فهو أليَق بي…
- إن لم يكن لديك مانع، قل لي اسمك الحقيقي. هل من اللائق أن أستضيفك في عِزبتي الخاصة ولا أعرف اسمك الحقيقي؟
- معذرةً منكِ، مدام رابية، إن بَدَرَ مني سوءُ أدب… كان اسمي جهاد، ولما فقدتُ وظيفتي وكلَّ شيءٍ لم يبق لي منه إلا حرفُه الأول. والفضلُ في ذلك يعود إلى حماتي السابقة التي أشاعت لقبي الشنيعَ بين الناس حتى نَسُوا اسمي الحقيقي. حتى أنا بِتُّ مقتنعاً بأنني لستُ جديراً بذلك الاسم.
- كما تحب. أخ جربوع، أقدم لك كلبنا رَيْحان. إنه واحد من أفراد أسرتنا. وأنت، يا رَيْحان، أريدك أن تتشرف بلقاء الأخ جربوع.
كانت نغمةُ نباح رَيْحان هذه المرة تشي بأنه مسرورٌ بلقاء هذا الوافد الغريب. فحيَّاه جربوع بأحسن من تحيته: ووف!
- أخ جربوع، أرجو أن تخلع كل ملابسك ما عدا الكيلوت وأن تنتظرني هنا.
- أخلع ملابسي؟
- نعم، ما عدا الكيلوت. أرجو ألا تخيِّب ظني بك. سأعود بعد قليل.
- حاضر، مدام.
***
خلع ملابسه ما عدا الكيلوت، بينما هي راحت تصعد الدرج وعَجِيزتُها تتمايل مثلَ لُغْدِ عجوزٍ أدْرَدَ يتمضمض. لم يجمح به الخيالُ كما فعل حين كانا في السيارة أو حين طوقت خصره بذراعها قبل قليل، لكأن وجود رَيْحان معه في الصالة شلَّ قدرته على التخيل. توجَّه نحو مائدة الطعام على يسار المدخل، فرأى فوقها صورةَ رجلٍ في منتصف العمر مُؤطرةً بإطار خشبيٍّ بُنِّيٍّ فاخرٍ. ومع ضعف بصره، راح يدنو من الصورة أكثر فأكثر حتى تبين له أن صاحب الصورة هو نفسه صاحب المعمل الذي طرده قبل سنوات لأنه تجرأ على مطالبته بعلاواته السنوية المتأخرة. أي نعم، هو عماد السَّرحان. كانت هذه الصورةُ أيقونةً لا تخطئها عينُ كل من يعمل، أو كان يعمل، في معمل ألبان البوادي. هي نسخة عن الصور التي يعلقها في مكتبه الفخم، وهو يَغُبُّ من عبوةِ حليبٍ من إنتاج معمله، وتنتشر في كل ركن من أركان المعمل.
تُرى، هل استدرجته المدام رابية السَّرحان إلى فخ؟ ما العمل؟ هل يهرب قبل أن تقع عليه طامَّةٌ أخرى؟ لكن أنّى له الهروب وهذا العَقورُ باسطٌ ذراعيه بالوصيد؟
لم تسرح به أفكارُه الحيرى بعيداً، إذ لم تلبث السيدة الفاتنة أن هبطت الدرج، يتبعها ثلاثة أطفال توائم ذوي خدود متوردة. كانت أجسامهم البَضّةُ الممتلئةُ توحي كأنهم نُسِخوا عن تماثيل ملائكة الشيروبيم الرخامية الجميلة البيضاء في بعض الكنائس.
قالت لتوائمها:
- هل ترون هذا الهيكل العظمي، يا أولاد؟ ستصيرون مثله إن لم تسمعوا كلام المربية نَتاليا ويشرب كل منكم في الصباح كأساً من حليب البوادي!
ثم التفتت إلى ضيفها، وقالت له:
- شكراً لك، أخ جربوع، على هذه الخدمة. بإمكانك أن ترتدي ثيابك. ستؤدي لك سونيا أجرَ إحسانك إلينا.
ثم نادت الخادمةَ، ووشوشت لها شيئاً في أذنها، ثم صعدت هي وملائكة الشيروبيم إلى الطابق العلوي. ناولته الخادمة كيساً ورقياً فيه عدةُ أرغفةٍ من الخبز وعبوتان من حليب البوادي. ثم دسَّت في يده عدةَ قطعٍ من النقود أجرةَ عربةٍ تعيده إلى مُتَسَكَّعِه في زحام المدينة.