د . أمير سعادة – الناس نيوز ::
خلال المفاوضات السريّة التي أدت إلى اتفاقية أوسلو سنة 1993، قرر الجانبان الفلسطيني والإسرائيلي تأجيل البت بمستقبل القدس، نظراً لحساسية المدينة تاريخياً وسياسياً.
وقد ظلّ هذا التأجيل يقلق الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات حتى يومه الأخير، حيث يقال إنه ندم على القبول بهذا الشرط.
ولكنه وبمقابل هذا التنازل المؤلم، أعاد اسم “فلسطين” إلى خارطة العالم، ونال اعترافاً دولياً بوجودها، أرضاً وشعباً، بعد أن كانت رئيسة وزراء إسرائيل غولدا مائير قد صرَحت في السبعينيات أن الشعب الفلسطيني “غير موجود”.
ذهب عرفات إلى خيار السلام بعدما فقد قدرته على المواجهة العسكرية، إثر طرده من جميع “دول الطوق” المحيطة بفلسطين ، لا سيما نظام الثعلب حافظ الأسد الذي حاول اغتياله ، وتوقف الدعم المادي الذي كان يتلقاه، إمّا من السعودية وليبيا أو من العراق.
يومها أدان لبنان الرسمي اتفاقية أوسلو، معتبراً أنها جاءت على حساب دماء الشهداء، وتحديداً، جميع من قتلوا خلال الانتفاضة الثانية. وقد جاءت الإدانة الأقوى على لسان الأمين العام لحزب الله في حينها، عباس الموسوي.
نتذكر عرفات وأوسلو اليوم بعد الإعلان عن توصل لبنان وإسرائيل إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية، يوم 10 أكتوبر/تشرين الأول 2022.
حكّام لبنان هم ذاتهم منذ سنة 1993، باستثناء الموسوي الذي قتل سنة 1994 , والرئيس رفيق الحريري، الذي اغتاله حزب الله أداة النظامين الأسدي – الخامنئي عام 2014.
من وجه اللوم لعرفات ونعته بأبشع الأوصاف يومها يروجون اليوم للاتفاق على أنه “إنجاز تاريخي”، ويقولون إنه حفظ حقوق لبنان، المعنوية والسياسية.
ولكننا إذ نظرنا إلى الاتفاق بعمق، نجد أنه أقل بكثير مما حصل عليه عرفات في أوسلو، فلبنان لم يأخذ حقوقه، كما يزعمون، بل إنه قَبِل ما وضع أمامه على طاولة المفاوضات، أي حقل قانا “الغامض”، الذي لا نعرف عنه إلا القليل.
لبنان الرسمي لم يطالب بالمعتقلين في سجون إسرائيل، ولا بأي تعويض مادي أو معنوي عن عقود طويلة من احتلال الجنوب أو عن تدمير العاصمة بيروت سنة 1982.
كما أنه لم يُدخل على النص، ولا حتى ذكر عابر لمزارع شبعا المحتلة ، أو إلى تلال كفر شوبا التي كان حسن نصر الله يتوعد بتحريرها في كل مناسبة.
في الاتفاق ثلاث هفوات كبرى، تجعل منه اتفاقاً أعرجاً بكل المقاييس، وهي:
حقل قانا، الذي اُعطي للبنانيين مقابل تنازلهم عن حقل كاريش الإسرائيلي الذي كان الرئيس ميشيل عون قد طالب به قبل عام.
في حقل كاريش ما يُعادل 2-3 ترليون متر مكعب من الغاز الطبيعي، يمكن البدء باستخراجه فوراً، ولا تحتاج إسرائيل لموافقة من أحد للقيام بذلك.
سقطت المطالبة بحقل كاريش من النص النهائي، التي كانت قد وضعت خطياً بمرسوم حمل توقيع رئيس الوزراء الأسبق حسان دياب، بطلب من الرئيس عون.
قبل اللبنانيين بحقل قانا، وأسقطوا كل الكلام المسبق بأن المنطقة المتنازع عليها مع إسرائيل هي 2290 كيلومتر مربع (ما يتضمن حقل كاريش)، وليس 860 كيلومتر مربع، هو مثبت في مطلب لبنان الرسمي ووثائقه المقدمة إلى الأمم المتحدة.
ولكننا مقابل هذا التنازل، لا نعرف حقيقة ما في باطن حقل قانا الذي يرحب به اللبنانيون اليوم. هل سنجد فيه غازاً أصلاً؟ وفي حال عثر على الغاز، كيف سيقوم لبنان المفلس بالتنقيب عنه واستخراجه؟ ما هي تكلفة الاستخراج؟ وكيف سيتم تصديره؟ لبنان يرفض أن يتم نقل الغاز، إن وجد، عبر ذات الأنابيب المجهزة التي تستخدمها إسرائيل، وذلك سيضاعف من تكاليف العمل.
الدراسات الأولية تشير إلى محزون “جيّد” من الغاز الطبيعي في حقل قانا، ولكن هذه الدراسات تبقى “أولية”، ويمكن لها أن تتغير بسرعة.
ففي إحدى الحقول الإسرائيلية، كانت الدراسات الأولية تشير إلى ما يزيد عن 30 مليار متر مكعب من الغاز، ولكنه وبعد بدء التنقيب تبين أن مخزونه لا يتجاوز 7-15 مليار متر مكعب.
هل سيتكرر ذلك مع حقل قانا؟ لا أحد يمكنه التكهن بذلك، ولكن هناك مثل سوري قديم يقول: “لو فيه خير ما رماه الطير”.
المنطقة البحرية الأمنة: كان الوفد اللبناني المفاوض يصر على إيجاد منطقة بحرية أمنية بعمق 5 كيلومترات، تكون تحت إدارة الدولة اللبنانية وحدها، وتعود ملكيتها إلى الجمهورية اللبنانية.
رفضت إسرائيل هذا المقترح، لأنه يضع مستعمرة نهاريا في مرمى نيران حزب الله، فتم تعديل الطرح من الجانب اللبناني، لتكون المنطقة الآمنة تحت إشراف قوات اليونيفيل، ولكن الحكومة الإسرائيلية رفضت المقترح أيضاً، فتقرر شطب هذا البند كلياً من الاتفاق النهائي، تماماً كما حدث مع موضوع القدس قبل 30 سنة، وتأجيل البت فيه إلى وقت لاحق، قد لا يأتي أبداً.
تعويضات إسرائيل عن حقل قانا:
رفض لبنان مشاركة إسرائيل بعائدات حقل قانا (إن وجدت)، وقبل بمقترح مبدئي، هو أن تقوم شركة توتال الفرنسية بدفع التعويضات المالية لإسرائيل.
ولكن هذا الأمر مرتبط بتوقيع اتفاق جانبي بين توتال وإسرائيل، لم يتم بعد، ولا نعرف ماذا سيكون مصيره في حال انسحاب توتال من الحقل واستبدالها بمشغل آخر في المستقبل.
هل ينتهي الاتفاق مع شركة توتال ويكون لبنان ملزماً بدفع التعويضات لإسرائيل من عائدات الغاز؟ لا أحد يمكنه الإجابة عن هذا السؤال اليوم.
كما أن الإعلام اللبناني أغفل موضوعاً بالغ الأهمية، وهو أن حكومة بيروت لا يمكنها البدء بالتنقيب إلا بعد حصولها على موافقة من الجانب الإسرائيلي.
هم يصرون على أنهم لم يعترفوا بوجود الدولة العبرية، ويتفاخرون بأنهم لم يعطوه أي شرعية سياسية.
ولكن مجرد قبول المفاوضات معه، ولو بشكل غير مباشر عبر وسطاء دوليين، هو اعتراف بدولة إسرائيل، وكذلك قبول إعطاء حكومة تل أبيب حق الموافقة على ساعة البدء بالتنقيب من الجانب اللبناني، وكيفية الاستخراج والتصدير.
كل هذه الأمور تحتاج إلى توضيح، لنرى إن كان الاتفاق فعلاً “منجزاً تاريخياً” للبنان والشعب اللبناني، أم مجرد ورقة في الانتخابات الإسرائيلية المقبلة، يستخدمها يائير لابيد للنيل من منافسه الشرس بنيامين نتنياهو، المعارض لأي تسوية مع لبنان وحزب الله؟