د . سمير التقي – الناس نيوز ::

كيف لي أن أجرؤ على الحديث عن ربيع قادم. فلقد سبق ان هزم ربيعان منذ 2011. هزم الربيع الأول بوحشية، ليقتل في إقليمنا أكثر من مليون ونصف إنسان، وخرُبت مدن، وتفككت دول الخ.. كيف أجرؤ؟
أجهض الربيع الأول 2011 تضافرا وقسرا وقتلا واحتواءً، ولم يتله لا صيف ولا حصاد مثمر. وانتهى الربيع الثاني عام 2019 إثر كارثة من نوع آخر، كارثة كوفيد.
ثمة سببين لجراءتي. أولهما، ان القوى العسكرية والخارجية التي ساهمت في إجهاضها، زادت غرقا في مستنقع أزماتها، وتفاقم تفكك الدولة الوطنية، وتدحرج الخراب نحو ازمة مستحكمة. ثانيهما، انه بثورة او بدونها، بسلاح او بغير سلاح، تتفكك الدول بحثا عن شرعية جامعة، ولا ينجو منها الا صاحب البصيرة. فلبنان مثلا، لم يحتج لثورة فاشلة كي يخرب. فالفساد وسوء الحوكمة وأمراء الحرب وتجار العقائد فعلوا فعلتهم دون قتال.
من شيم التاريخ انه كلما كان التحول أعمق كان المخاض وحشياً ومضنيا! فبعد إجهاض الثورة الفرنسية، بقيت أوربا تغلي وظلت تذبح الثورات، إلى ان استتبت شرعية الدولة الامة، لا على وعود هتلر وموسوليني الإجرامية، ولا أوهام الإمبراطورية الدموية للشيوعية السوفيتية، بل استتبت الدولة الامة التمثيلية بتوافق المكونات لتبدأ طريقها الوعرة نحو الديمقراطية. كذلك كانت اتفاقيات فستفاليا الألمانية العظيمة.
في طريقها نحو إعادة شرعية الدولة الامة والميثاق الوطني الجامع، تتخذ دول شرقنا الأوسطي ذات المسار. ولعها تفعل بتسارع أكبر. قد تتبدل حدود سايكس بيكو، لتسقط دول وظيفية قامت على تقسيم العمل الاستعماري، لكنها، في كل الأحوال، ستبقى تغلي وتفور في موجات متتالية من الاحتجاج المسيس. ومن سينجو ببصيرته من هذه الدول، فذاك الذي يستبق الانفجار بالتغيير والتقدم.
أزعم ان الربيع الأول كان انتفاضات وانفجارات مجتمعية بلا سياسة. فلئن كانت السياسة فن التحالف ونخب، لم يكن في الربيع الأول تحالفات برنامجيه ولم تكن ثمة قيادات معترف بها. لم يكن ثمة شيء من ذلك.
كانت التحالفات وقتية وطارئة، والخطط غرائزية وثورية طفولية. بالمقابل كانت القوى السياسية التي طفت فيه، من ذات جنس الأنظمة! مستبدة عقائدية وإقصائية. ولا يمكن لها ان تكون البديل التاريخي الأرقى.
أما قوى الشباب التي حملت الروح العظيمة لهذا الربيع، فكانت قوى مجتمعية احتجاجية ومدنية، ولم تكن سياسية أبدا. وبعد ان احتلت الشارع، لم تدر لمن تسلم الراية، ولا كانت جاهزة سياسيا لاستلامها. فاختطف امراء الحرب وأولياؤهم الربيع وذبحوه.
في 2018 نفض الكثيرون يدهم من مما اعتقدوه “وهم الربيع”. وساد منطق في الغرب ان العرب لا يحكمون إلا بكسَّار رؤوسهم.
لكن! سرعان ما بزغ الربيع الثاني 2019 في العراق والسودان وإيران والجزائر ولبنان وتونس وسوريا الخ. ورغم غياب القيادات السياسية، اتسم الثاني بسمات جديدة: تبعثرت الإيديولوجيا وجماعاتها، لتصير الشعارات المدنية، سياسية ملموسة: الحوكمة، الفساد، “نريد وطنا”!! وبدلا من إبعاد “الرئيس”، صارت المطالبة بتغيير نموذج الدولة الرأسمالية الاحتكارية الفاسدة.
لكن كوفيد، وهدوء الشوارع، منح الحكام والعسكر التقاط الأنفاس، لتلافي الربيع الثاني، وترقيع سلطاتهم، لتغوص بعدها في جورة أعمق.
حين تستعصي ظاهرة تاريخية على القمع، وتستمر في قرع باب التاريخ، فلأن وراءَها قوى لا تُرد! فلقد أمعن فيروس كوفيد في كشف فشل الأنظمة الفاسدة. فلا هي مؤامرة ولا قومة غضب ولا من يحزنون. القوة الموضوعية، تكمن في انها لن تهدأ حتى يستتب عقد اجتماعي طوعي جامع لمكونات الدولة الأمة مبني على المواطنة، تأسيساً لشرعية وطنية بالتراضي، والتمثيل. فلا رسالة خالدة ولا امبراطورية دينية ولا ما يحزنون.
تظهر تجربة القرن التاسع عشر وما بعده، أن الديمقراطية لا تكفي لبناء السلم الأهلي، ولا تحمي من تعسف مكون ضد آخر. ودون التوافق الطوعي الاختياري المسبق يضعه الآباء المؤسسون، تدور الأمة في صراع أبدي.
فلو كان صندوق الاقتراع يكفي، لما كان ثمة قضية للسود والأقليات في أمريكا، ولا كورسيكا وبريتانيا في فرنسا، ولا ايرلندة في بريطانيا الخ..
وكذا الأمر في اقليمنا.
الميثاق الموحد للآباء المؤسسين هو الأسبق على الديمقراطية لاشتقاق الشرعية في الدولة التمثيلية. وبالطبع تصبح الشرعية أقوى وأقوى، بديمقراطية الصندوق، لكنه ليس شرطا مسبقا، بل نتيجة تبنى على أرضية التوافق المؤسس للشرعية.
ودليلي! انه في بعض الدول المتحررة من الاستعمار في اقليمنا، لم يكن ثمة طريق للانتقال نحو الديمقراطية، وكان الأساس هو التوافق التمثيلي بين العشائر أو المكونات للآباء المؤسسين. كانت تلك هي “الديمقراطية” التاريخية الممكنة، لكونها سمحت بسلم اهلي وتنمية حقيقية. والامثلة كثيرة في اقليمنا.
وبالمقابل لم تتمكن سلطات الغلبة، من عبور جسر الشرعية، وصار القمع تعويضا لنقصها. ليتم إغراق “الشرعية” بمياه تلك البئر العقائدية العميقة، من المظالم والأوهام وعنجهية “والرسالة الخالدة” او “الخلافة” او “المعارك المركزية”، ناهيك عن ووعود العدالة الاجتماعية والتنمية الاشتراكية.
بعد ان انطوى زمنها في نهاية الحرب العالمية الأولى، اندثرت الإمبراطورية العثمانية، مع اربع من رفيقاتها في ألمانيا وبريطانيا وروسيا والنمساوية-الهنغارية. تلك سمة ذاك العصر. وسقطت معها الشرعية العقائدية كأساس للحكم. وتفككت العديد من الدول التي لم تكن تمتلك من العصبية الوطنية – عصبية الأمة الواحدة، ما يكفي لتلاحم الدولة الوطنية باستثناء عدد من الدول في الإقليم.
لكن سرعان ما طمرت سطوة الاستعمار الغربي، أزمة انهيار الشرعية التقليدية. وعادت بعد رحيلهم للدول الناجمة عن تفكك الإمبراطورية وتقسيمات الاحتلال. بعض الأقاليم مثل مصر والمغرب وتونس كانت فيها ما يكفي من عصبية الامة كي تحاول انتاج الدولة الأمة.
الآن تطنش اغلب النخب والاعلام عن الربيع الجديد، ويفضل الكثيرون ان لا يقروا بإلحاح التاريخ. ثمة جديد يبزغ في كل مكان. ورغم انهم شاهدوا بأم عيونهم مصير الاحتجاج، ينزل الناس كالعين تواجه المخرز. احتجاجا وغضبا في وجه الجمود على الفساد وتأكيدا لغياب الشرعية.
والجديد على خلاف الربيعين السابقين، يدرك الشباب مصيبة تسليم مصير البلاد لجيل عتيق متناحر عقائدي ومنهار سياسيا. الجديد هو البحث عن العقد الاجتماعي فوق دستوري عابر للمكونات، كذا الأمر في لبنان وسوريا وليبيا والسودان الخ.. ولن يفيد التطنيش الا في إدامة العذاب والإفلاس!

