د. ممدوح حمادة – الناس نيوز :
في السابعة صباحا، عندما كان الباص يسير في الطريق المنحدر من أعلى الجبل باتجاه المدينة، كان فياض يجلس في المقعد الأخير متوجها إلى طبيب التناسلية في المدينة، لكي يقوم بفحصه لمعرفة إن كان هو سبب المشكلة في عدم الإنجاب أم زوجته التي مضى على زواجه منها سبع سنوات، وكان على ثقة كاملة بأن الدكتور سينظر في عينيه ويعطيه النتيجة مباشرة، وكان يتمنى بطبيعة الحال أن تكون زوجته هي سبب عدم الإنجاب، ليس من أجل الزواج بأخرى لكي ينجب، فهو لن يفعل ذلك في كافة الأحوال، ولكن لأن عدم الإنجاب من قبل الرجل يعتبر بمثابة العار في أم الطنافس، وهو في الحقيقة كان قد اتخذ قرارا بألا يعود إلى القرية في حال تبين أنه غير قادر على الإنجاب، وتخيير زوجته بالبقاء معه أو تركه كما تراه هي مناسبا، الكثير من الأخماس ضربها فياض بأسداسه قبل أن يصل إلى عيادة الدكتور الذي استقبله بعد أن وصل إليه الدور في حوالي الثانية عشرة ظهرا، وبعد أن شرح مشكلته للطبيب طلب منه الطبيب أن يقوم بإجراء التحاليل قبل أي شيء، وأعطاه تحويلا إلى مخبر قريب يحول إليه كل زبائنه.
– نجري التحاليل.
قال فياض وتابع بروح الدعابة:
– ليست أول مرة نجري فيها تحليلا.. لا تخيفنا التحاليل أبدا.
وقهقه فياض لكي يفهم الدكتور أنه يضفي على الموضوع روح دعابته، ولكن الطبيب ناوله الورقة وطلب منه أن يحضرها في اليوم التالي لكي يطلع على النتائج، دون أن تتحرك عضلة واحدة في وجهه، ما دفع فياض بدوره لإعادة الملامح الجدية لعضلات وجهه ولم يستطع ألا يقول في نفسه بحنق:
– (تبا لك وللذي جاء إليك.. قبحك الله من بين الأطباء).
في المخبر أعطى الممرض حنجورا زجاجيا لفياض وأشار له إلى باب هناك طالبا منه أن يجلب له عينه من أجل التحليل.
لم يجد فياض أي صعوبة في الموضوع، فدخل إلى الغرفة الصغيرة تلك وأغلق خلفه الباب وما هي إلا دقيقتين حتى عاد إلى الممرض بحنجور مليء وقال:
– إن كان هذا قليلا أملأ لك حنجورا آخر.. ليس هناك أي مشكلة.
ولكي يظهر للممرض روح دعابته أردف:
– شربت أربعين كأسا من الشاي اليوم.. والخير كثير..
و قهقه فياض غير أن الممرض فاجأه:
– ليس المطلوب تحليل بول.
– تحليل ماذا إذا يا دكتور..
تنحنح الممرض وقرب فمه من أذن فياض وهمس له بشيء ما، فتلبدت ملامح فياض، ونظر إلى الجالسين والجالسات على كراسي الانتظار حول الباب المؤدي إلى تلك الغرفة وامتقع لونه، ولكنه أخذ الحنجورين وتوجه صاغرا إلى الغرفة تلك، تخلص من الحنجور الأول ثم عاد فورا إلى الممرض قائلا:
– دكتور هل يمكن لي أن آخذ معي الحنجور وآتيك بالعينة ؟
فوافق الممرض ولكنه أوضح أن ذلك ممكن فقط في حال كان فياض يستطيع فعل ذلك في غضون عشر دقائق، لأن العينة تفسد إن مر عليها أكثر من عشر دقائق، وبطبيعة الحال فإن ذلك كان مستحيلا بالنسبة لفياض، مما دفعه للعودة إلى الغرفة المشؤومة متأملا في طريقه وجوه الأشخاص الجالسين على مقاعد الانتظار، وأكثر ما أزعجه ابتسامة صفراء كانت ترتسم على وجه أحدهم.
بدأ فياض بمحاولة استخراج العينة شاعرا بالحرج، وكأن جدران تلك الغرفة تراقبه، وبدلا من التخيلات المثيرة التي كان يحاول استحضارها لمساعدته في استخراج العينة، لم تكن تحضر إلى مخيلته سوى تلك الابتسامة الصفراء التي كانت ترتسم على وجه ذلك الوغد، وشيئا فشيئا لم تعد تخيلاته تكتفي بتلك الابتسامة، فهو فجأة تذكر النظرة التي لا تخلو من الازدراء كما تهيأ له، والتي وجهتها إليه امرأة كانت تجلس على كرسي قرب الباب، وحضرت وجوه جميع الذين في الخارج فتشنجت ملامحه وقال في نفسه:
– كيف أتمكن من ذلك وجميع الذين في الخارج يعرفون ما الذي أفعله هنا.
ولهذا السبب فقد فشل في الحصول على أي نتيجة، فقرر أن يتوقف قليلا ويحاول التخلص من هذه التهيؤات، وتمكن أخير من استحضار مشهد حار من فيلم شاهده ذات يوم اسمه الحب والحرب، ففياض لم يشاهد أفلاما إباحية في حياته، ولكن هذا المشهد كان كافيا لبعث الحياة في الخلايا النائمة، خاصة وأن فياض أخذ يطوره في مخيلته بحسب ما يتطلبه الموقف، ولكن صدفة وقعت عين فياض على الباب فانتبه أن الباب من النوع القديم الذي فيه ثقب كبير يمكن التلصص منه، فأوقف العملية التي كان يقوم بها وخلع عن رقبته الشال وعلقه على مقبض الباب بحيث يسد الثقب الذي فيه، ثم عاد واستحضر المشهد المذكور سابقا بعد أن أصبح لديه خبرة في هذا الموضوع، وشعر فياض أنه على وشك الحصول على العينة المطلوبة عندما امسك أحدهم من الخارج بمقبض الباب محاولا فتحه، ورغم أن الباب مغلق من الداخل بدقر، إلا أن فياض قفز وضبضب نفسه بسرعة وسقط الحنجور من يده على الأرض وأصدر صوتا جعل جميع من في الخارج يوجهون أنظارهم باتجاه الباب، ولكن الحنجور لم ينكسر، وهذا ما شكر فياض الله عليه.
التقط فياض الحنجور وعاد إلى محاولة استحضار العينة بالطريقة التي حاول فيها قبل دقائق، لكن صعوبة بالغة واجهته هذه المرة في استحضار المشهد المثير، ورغم استخدامه لكافة الوسائل التي يعرفها في محاولة استنهاض خلاياه إلا أنه فشل فعاد للاتكاء على الحائط من جديد في محاولة لتمالك نفسه، ثم عندما شعر بأنه جاهز لجولة جديدة عاد لاستحضار المشهد المذكور الذي لا يوجد غيره في جعبة فياض، ويمكن القول إنه نجح في الانتقال إلى المرحلة اللاحقة من العملية وإن بصعوبة، وسارت العملية بأفضل مما يتوقعها فياض وكان على وشك اختتام المهمة التي كلفه الممرض بها عندما سمع قرعا على الباب وصوتا أجش يستحثه:
– مطوّل أبو الشباب؟
قطعت سلسلة الصور التي كانت متوهجة في مخيلة فياض وتحولت كلها إلى شريط أسود قاتم، وخمدت خلاياه كأن أحدا أطلق عليها النار، وضغط على نفسه لكي لا يخرج ويحطم أنف ذلك الذي قرع الباب، ولكنه تجاهل الموضوع وحاول العودة إلى فيلم الحب والحرب الذي أخذ منه فياض ذلك المشهد ونسج عليه سيناريو جديد كليا، مبقيا على بطلة الفيلم وطاردا البطل الذي أخذ فياض مكانه، ولكن كل محاولاته الجديدة فشلت خاصة أنه سمع قهقهة في الخارج كان على ثقة تامة بأنه سببها، ما جعله يتوصل إلى قناعة تامة بأن الحصول على العينة في هذه الظروف الصعبة أمر مستحيل.
رتب فياض هندامه وخرج بالحنجور الفارغ من تلك الغرفة،التي سرعان ما دلف إليها رجل كان ينتظر عند الباب وفي يده حنجور زجاجي يشبه ذلك الذي كان مع فياض.
وضع فياض الحنجور على طاولة الممرض وقال بنبرة حاقدة:
– بدناش ولاد خيو.. يلعن أبو الوِلْدْ
ثم انصرف دون أن ينتظر رد الممرض وفي محاولة للانتقام، لم ينس فياض أن يعبث بمقبض باب تلك الغرفة ويصرخ باتجاه الداخل:
– مطول أبو الشباب؟.. خف رجلك شوي.
د. ممدوح حمادة