د. أمير سعادة – الناس نيوز ::
بمناسبة انعقاد القمة العربية الأخيرة، وكل هذا الانقسام الذي حصل بين مؤيد لعودة سوريا ومعارض لها، أريد تذكير قراء جريدة ” الناس نيوز” الأسترالية أن الجامعة العربية هي في الأساس ومنذ يومها الأول جامعة “مكايدة” بين الزعماء العرب. مر 78 سنة على تأسيسها، ولم يتغير شيء في جوهرها، إلا أسماء الحاضرين في قممها الدورية.
يوجد خلاف قديم بين من يقول إن الجامعة العربية هي من منجزات الملك فاروق الأول، والقائلين إنها ولدت بفضل مساعي رئيس حكومته (وخصمه اللدود) مصطفى النحاس باشا. النحاس باشا هو الذي دعا إلى الاجتماعات التحضيرية التي انبثق عنها برتوكول الإسكندرية الشهير في 7 أكتوبر/تشرين الأول 1944، والذي تقرر فيه مشروعهم لتوحيد جهود العرب في منظمة سياسية سيادية واحدة، قادرة على جمع المال وحشد الهمم وتنسيق المواقف في المحافل الدولية، ولا سيما الأمم المتحدة التي كان مخطط لها أن ترى النور بعد سبعة أشهر.
ولكن العرب اختلفوا بداية على تسمية: رئيس وفد سوريا ورئيس حكومتها سعد الله الجابري اقترح اسم “التحالف العربي” فعارضه نظيره العراقي حمدي الباجه جي وقال: “التحالف العربي أفضل”.
هنا جاء النحاس باشا باسم “الجامعة العربية”، وقال إنه الأسلم من الناحية اللغوية من مقترحات الجابري والباجه جي فوافق بقية الأعضاء. وتكرر خلاف مشابه بعد ثلاث سنوات عند البحث في تمسية لجيش المتطوعين العرب الذي شكلته الجامعة العربية لمحاربة العصابات الصهيونية في فلسطين سنة 1947.
الملك السعودي يومها عبد العزيز آل سعود اقترح أن يكون الاسم “جيش المسلمين” فعارضه الملك فاروق وقال إن المتطوعين والمقاتلين قد لا يكونوا مسلمين فقط، مقترحاً اسم “جيش نصرة فلسطين”. انزعج عبد العزيز وتدخل الرئيس السوري شكري القوتلي لفض الخلاف واقترح “جيش إنقاذ فلسطين” وهو الاسم الذي اعتمد طبعاً.
من سرق الجامعة؟ .
سقطت حكومة النحاس باشا في 10 أكتوبر/تشرين الأول 1944، أي بعد ثلاثة أيام فقط من التوقيع على بروتوكول الإسكندرية. استغل الملك فاروق هذا الفراغ وعيّن أحمد ماهر باشا، عضو الحزب السعدي المنشق عن الوفد رئيساً للحكومة.
وفي عهده بدأ الملك بتجيير منجز الجامعة بشكل كامل إلى القصر الملكي، وصولاً لإطلاقها بشكل رسمي في 22 مارس/آذار 1945. وطالما كان النحاس، وفي مجالسه الخاصة، يقول إن فاروق “سرق” الجامعة منه واستخدمها لطموحاته السياسية الإقليمية. استقبلها لبنان بفتور شديد، لأن غالبية سكانه كانوا من المسيحيين الموارنة البعيدين كل البعد عن قضايا العالم العربي، ومنها طبعاً قضية فلسطين.
ولكن شاءت الأقدار يومها أن يكون رئيس الجمهورية (الماروني) الشيخ بشارة الخوري مؤيداً لها، وهو المعجب جداً بأي شيء مصري أو قادم من مصر بعد سنوات إقامته في القاهرة أيام الحرب العالمية الأولى. وأيد الفكرة طبعاً رئيس حكومته رياض الصلح، المتحمس للعروبة من حيث العقيدة والباحث عن حلفاء لمساعدة بلاده على نيل استقلالها عن الانتداب الفرنسي. وكانت سوريا، إضافة للنحاس باشا، في طليعة المتحمسين للجامعة العربية.
أقطاب عربية وتحالفات .
كان العالم العربي يومها منقسماً إلى قطبين، الأول مصري، سعودي، يقوده الملكان فاروق وعبد العزيز، المتحالفان في وجه التيار الهاشمي الحاكم في بغداد وعمّان. جذور هذا الخلاف طبعاً تعود إلى نقمة الهاشميين على آل سعود، بعد إطاحتهم بوالدهم الشريف حسين عن عرش مكة وإسقاط مملكته في الحجاز واستبدالها بالمملكة العربية السعودية.
كل ما كان يأتي من طرف الملك السعودي يتعامل معه ملوك الأردن والعراق بحذر شديد وريبة، وقد سرى هذا الأمر على كل ما يأتي أيضاً من مصر بسبب تحالف الملك عبد العزيز مع الملك فاروق ووقوفهم في خندق واحد في وجه الأسرة الهاشمية وطموحاتها.
اعتبر الوصي على عرش العراق الأمير عبد الإله وعمّه ملك الأردن عبد الله الأول أن مشروع “الجامعة العربية” جاء فقط لتقوية المحور السعودي، المصري، وتخوفوا من أن يكون ذلك على حساب عروشهم في الأردن والعراق. ولكنهما لم يعترضا على التفرد المصري وركبا في سفينة “الجامعة” على مضد لإرضاء للشارع المتحمس للعروبة في بلادهم، ولكيلا يظهرا خارجين عن الصف العربي المشترك.
القمة العربية الأولى .
استغل الملك فاروق غياب حزب الوفد عن رئاسة الحكومة في مصر ودعا إلى أول اجتماع عربي في عقر داره، في مدينة أنشاص المصرية، في مايو/أيار 1946. وقال يومها: “صحيح أن النحاس باشا أوجد الجامعة العربية، ولكني أنا الذي سأوجد لها قمماً وميثاقاً، وأنا الذي سأنقلها من الحالة النظرية إلى الحالة العملية”.
كانت خلافات كبيرة قد تفجرت بين العرب في الفترة ما بين توقيع بروتوكول الإسكندرية في أكتوبر/تشرين الأول 1944 وولادة الجامعة في مارس/آذار 1945. السوريون أرادوا أن يكون للجامعة جيش عربي مشترك، دوره حماية كل الدول الأعضاء من أي عدوان أجنبي وإقليمي، ولكنّ الأردن رفض هذا المقترح لأن ملكه كان يطمح بالتدخل العسكري وضم سوريا إلى مملكته. وكانت هناك طروحات أخرى، لم تر النور أيضاً، كإنشاء عملة عربية مشتركة ومصرف عربي مشترك وصندوق تنمية للدول العربية الفقيرة.
ولعل أكبر دليل على فشل العرب من أيام الجامعة العربية الأولى، هو ما حدث يوم التوقيع على ميثاقها في أثناء انعقاد مؤتمر أنشاص. تأخرت المسودة ولم تصل للملوك والرؤساء حتى ساعة متأخرة من الليل.
تعب الملك عبد الله من الانتظار وانصرف إلى غرفته للنوم بحجة سفره إلى عمّان في اليوم التالي، وقال إنه سيقرأ الميثاق في الصباح الباكر ويقوم بتوقيعه. في الساعة الثانية صباحاً انتهى الخطاطون من إعداد النسخة الرسمية والنهائية للميثاق وأرسلوها إلى الملك فاروق الذي كان لا يزال يمضي سهرته مع ضيوفه الملوك والرؤساء.
وقعوا جميعاً على الميثاق، والنعاس بادٍ على وجوههم وفي أعينهم، وقال فاروق: “سأوقظ الملك عبد الله وأطلب منه أن يمضي الآن”.
فقال الرئيس اللبناني بشارة الخوري: “لئلا يغير رأيه في الصباح!”
هرع ملك مصر إلى جناح ملك الأردن وطرق بابه بقوة.
ارتفع صوت الملك الأردني من الداخل: “خير إن شاء الله…مين؟”
فقال فاروق: “أنا فاروق…إحنا جينا على شان جلالتك تمضي!”
وفتح الباب الملك عبد الله وعيناه الناعستان تكذبان تأكيده لفاروق بأنه لم يكن قد غفي بعد عندما سمع صوت الطرق على بابه. ثم جلس ومضى ميثاق “جامعة الدول العربية” وهو يرتدي البيجاما و”الروب دي شامبر”.