في أيلول العام 1949 دخل الصحفي اللبناني الشاب غسان تويني على رئيس حكومة سوريا فارس الخوري. الهدف من الزيارة كان لإجراء لقاء صحفي لصالح جريدة النهار. لم يُخف تويني غضبه من موقف الخوري المهادن لحسني الزعيم، صانع الانقلاب الأول في سوريا. كان تويني عضواً في الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي قام حسني الزعيم بخيانه زعيمه أنطون سعادة وتسليمه إلى السلطات اللبنانية، حيث تم إعدامه في مطلع ذلك الصيف.
تكلّم تويني بغضب شديد قائلاً: “كيف تقبل أن يحدث هذا وأنت موجود؟ أنت شيخ القانونيين رمز الشرعية!”
رد الخوري، بمنتهى البرودة والهدوء: “الانقلاب نجح…مو هيك؟“
أجاب تويني: “نعم….ولكن…”
فقال الخوري: “إذن، فقد أخذ الشرعية!”
وقد أدت هذه الجملة إلى فتور شديد في علاقة تويني مع الخوري استمرت حتى وفاة الأخير سنة 1962. وقد سمعتها من تويني قبل سنوات طويلة عندما زرته في مكتبه بجريدة النهار في نهاية التسعينيات. وفي حادثة أخرى عن الحزب وماضيه، وصل الرئيس أديب الشيشكلي، وهو سوري قومي، إلى منزل رئيس الحزب جورج عبد المسيح، ولكن دون موعد مُسبق. قابله عبد المسيح على مضض قائلاً: “استقبلك كصديق عزيز أو كرئيس جمهورية، ولكن حزبياً أنت أدنى مني قِدماً ومرتبةً، ولا يمكنك الدخول على رئيسك بهذا الشكل، من دون موعد!”.
هذا كلّه جرى في وقت كان الحزب القومي فيه منبراً للأحرار وجامعاً للتقدميين العلمانيين كافة، لا تغريه سلطة أو مال. هكذا عُرف الحزب في كتب التاريخ منذ أن روّج أنطون سعادة لأفكاره للمرة الأولى، بين أساتذة وطلاب جامعة بيروت الأميركية في مطلع الثلاثينيات. ولكن أين هو اليوم من كل ذلك، وماذا سيقول أمثال تويني وعبد المسيح عن حزبهم، الحزب السوري القومي الإجتماعي لو رأوا ما حلّ به من مصائب؟ أولى الأخطاء كانت رده بالثأر عبر تصفية رياض الصلح ومقتل عدنان المالكي سنة 1955. فقد انشق الحزب عمودياً وأفقياً من يومها، وقَبِل أن يكون عضواً مُهرجاً في الجبهة الوطنية التقدمية، وهي عبارة عن تجمع لأحزاب يسارية يقودها البعث في سوريا، لا قيمة لها ولا وزن. رضي أن يكون تابعاً للبعث بعد سنوات طويلة من النديّة في الشارع وقَبِل أيضاً أن يُصبح أداة في يد رامي مخلوف، الذي قام بشرائه، مثلما يشترى أي ربطة عنق أو قارورة عطر أو حذاء. إذا لم يُعجب غسان تويني أداء علّامة من وزن فارس الخوري، ولم يكترث جورج عبد المسيح لزيارة أديب الشيشكلي، ماذا سيقولون عن صغار القوميين اليوم، الذين حملوا السلاح في الحرب السورية، بدلاً من الأقلام التي عرفوا بها خلال تاريخهم الطويل.
حزب أسعد حردان القومي الاجتماعي .
وكل هذا بكفّة وما يجرى حالياً داخل الحزب في لبنان بكفّة أخرى. المعروف أن الجناح السوري من الحزب سقط مع سقوط رامي مخلوف منذ عام ونيّف، واستطاع الجناح اللبناني البقاء علي قيد الحياة من خلال انضوائه تحت مظلّة تحالف 8 آذار. وكان موعوداً بمقعد في حكومة الرئيس سعد الحريري، بعد تأييد رئيسه “التاريخي” أسعد حردان عودة الحريري إلى رئاسة الحكومة إثر استقالة حسان دياب في شهر آب الماضي. ولكن وبعد أسابيع قليلة من ذلك حصلت انتخابات داخل الحزب في شهر أيلول الماضي، أقصت حردان عن منصبه وأطاحت بطموحاته السياسية، والتي يبدو أنها لا تشيخ مثل صاحبها السبعيني. غريبةٌ حقاً هي تلك الطموحات، لأن الرجل تقلّد مناصب وزارية في خمس حكومات وعلى مدى 13 سنة، ومن المفترض أن يكون قد أشبع شهوته السلطوية.
مع ذلك، هاج حردان وماج، رافضاً إفساح المجال أمام قيادة جديدة للحزب الذي ظلّ يقوده طوال 12 سنة، معتبراً أن تلاعباً وتزويراً تم في تلك الانتخابات. توسّل بداية لدى السفير النظام في سوريا بلبنان علي عبد الكريم طالباً العون للتخلص من منافسيه، وعندما لم يفلح توجه إلى دمشق، كما جرت العادة عند الكثير من اللبنانيين في زمن الوصاية السورية. جال على الأفرع الأمنية، مُطالباً بعقد انتخابات جديدة في شهر كانون الثاني الماضي، ظناً أنها ما تزال كما عرفها في زمن غازي كنعان ورستم غزالة. وبتشجيع من السوريين ومن حزب الله، قدم طعناً أمام محكمة الحزب العليا، التي تم إلغاؤها من قبل القيادة الجديدة، فلجأ حردان إلى القضاء اللبناني، متجاوزاً كل الخطوط الحمراء التي وضعها القوميون لنفسهم منذ القِدم. فلهذا الحزب ثأرُ دمٍ مع القضاء اللبناني، الذي لا يعترف به القوميون منذ صدور قرار إعدام أنطون سعادة قبل 72 سنة. مع ذلك ضرب أسعد حردان بكل ذلك ورفع دعوى على حزبه فقط لكي يتمكن من البقاء في منصبه، ولو أدى ذلك إلى خراب الحزب. واليوم يقتحم أنصار حردان مقر الحزب في البترون وهم مدججين بالسلاح بهدف طرد “الخوارج،” مُعتبرين أنهم أصحاب الحق فيه. هذا غيض من فيض، ويبدو أن أسعد حردان لن يتوقف عند هذا الحد وسيلجأ لمزيد من القوة لاستعادة ما خسره بالديمقراطية.
وهنا يأتي السؤال الأهم: ماذا بقي من الحزب القومي ومن فكر سعادة بعد أن تحوّل ( الجزء الشبيحي الأسدي والحرداني منهم على وجه الخصوص ) القوميون إلى بلطجية وزعران، لا علاقة لهم بماضيهم أو باسمهم أو مؤسسهم.
أمير سعادة .