بيروت – الناس نيوز:
جاء وباء كوفيد-19 ليزيد في المصاعب الموجودة أصلاً التي كانت تعاني منها الجامعات والمعاهد العلمية، كما يقول الباحثان مروان المعشّر وسوزان ريزنيك بيرس في مقالة مشتركة.
مروان المعشر هو نائب رئيس معهد كارنيغي وسوزان ريزنيك بيرس رئيسة سابقة لجامعة بوجيت ساوند وتتولى حالياً رئاسة الشركة الاستشاريةSRP Consulting, LLC.
وقال المعشر وريزنيك بيرس في مقالة نشرتها مؤسسة كارنيغي في لبنان إن العديد من الكليات والجامعات الأميركية، الخاصة كما العامة، كانت في وضع مالي متزعزع طيلة العقد الماضي، بسبب عجوزات بنيوية قاسية هي حصيلة تراجع نسب الالتحاق، وتصاعد خفوضات رسوم التعليم، والصيانة المُرجأة، والديون المُكلفة.
وأضاف الباحثان أن الكليات والجامعات التي تأثّرت بهذه العوامل اتخذت خطوات مضطردة لإزالة هذه العجوزات، على رغم أن بعضها عانى من مشاكل مالية لمدة أشهر فقط لا لسنوات. وفي السنوات الأخيرة، عمد بعضها إلى خفض أعداد الموظفين، وفي حالات نادرة حتى بعض أعضاء السلك التعليمي، وعزّزت الوظائف الإدارية، وتبنّت خدمات مشتركة.
ولكن كل ذلك لم يعد يجدي مع “كوفيد– 19″، كما يقول الباحثان. بدلاً من ذلك، تتخذ الآن بعض الكليات والجامعات، بمن فيها حتى تلك التي تحظى بمال وفير، خطوات كانت تُعتبر في السابق شديدة القسوة، على غرار الوقف المؤقت عن العمل، وإنهاء الإنفاق التقديري، وتعليق السفر، وخفض رواتب كبار الإداريين. العديد من المؤسسات أعطى الموظفين إجازات أو سرّحهم، وبعضها قلّص المزايا. وثمة عدد لا سابق له منها يقوم بإلغاء البرامج الأكاديمية ومناصب الكادر التعليمي، بما في ذلك أعضاء هيئة التدريس الدائم. وفي هذه الأثناء، تقوم حكومات الولايات، التي واجهت فجأة مشاكلها الخاصة في الموازنات، بتقليص دعمها للكليات والجامعات العامة. والواقع أن كل هذه الهيئات تعاني من مسألة ما إذا كان يجب، ومتى، وإلى أي درجة، إعادة طلابها، وجهازها التعليمي وموظفيها إلى الحرم الجامعي.
غير أن الباحثين يعتقدان أن بإمكان الجامعة الأميركية في بيروت (AUB) أن تلعب دورا قياديا في هذا المجال. والواقع أن إجراءات الجامعة الأميركية في بيروت لن تكون مصدر إلهام لكليات وجامعات أخرى حول العالم وحسب، بل نحن نأمل أيضاً (فيما تسعى الجامعة لإعادة تعريف نفسها عبر المضي قدماً) بأن تعيد تأكيد الالتزام، لا التخلي عن أنموذج القيم الليبرالية والتوق لإنتاج مواطنة مُطّلعة تفيد مجتمعاتها والعالم.
ويعتقد الباحثان أن فهم تاريخ الجامعة الأميركية في بيروت وخياراتها الراهنة يعمّق نواحي الاستنارة وأن هذا الحرم الجامعي مكان يلم شمل طلاب من كل أنحاء العالم، يُمثّلون العديد من الأديان، والجماعات الإثنية، ومختلف وجهات النظر السياسية، ويدرسون على يد جسم أكاديمي مُتعدد وموهوب بالقدر نفسه.
هذا الالتزام بالتعددية والقيم الليبرالية هو الذي جعل الجامعة الأميركية في بيروت قادرة على الحفاظ على البقاء طيلة 154 سنة، في منطقة شهدت حروباً طاحنة واضطرابات عنيفة. كما أنها نجحت في صراع البقاء خلال السنوات الـ15 للحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990)، على رغم الصعوبات السياسية والأمنية والمالية الصاعقة. إنها حققت كل ذلك بفعل التزام إدارتها وجسمها الأكاديمي بنظام تعليم يصر على تطوير إنسان يتمتع بنظرة شمولية وقادر على التعاطي مع تعقيدات الحياة، وليس التركيز فقط على التدريب التقني.
لقد ضرب وباء “كوفيد- 19” لبنان والمنطقة، في وقت كانت تعاني فيه هذه الأخيرة من مناخات اقتصادية وسياسية في غاية الصعوبة. إذ هذه كانت الأزمة الكبرى الرابعة التي تجتاح المنطقة، والخامسة في لبنان، خلال العقد الماضي. الانتفاضات العربية في العام 2011 كانت حصيلة مباشرة لغياب الحوكمة السياسة الرشيدة في معظم البلدان العربية. وفي العام 2014 بدأت أسعار النفط بالهبوط، ومعها تفككت الأنظمة الاقتصادية الإقليمية المستندة إلى الريعية التي مارست الزبائنية والمحسوبيات أكثر من اعتمادها على الإنتاجية والكفاءة. نقص الاهتمام هذا بهذه القضايا، قذف العالم العربي إلى وهدة الأزمة الكبرى الثالثة، حين اندلعت الانتفاضات في أربع دول عربية (السودان، العراق، الجزائر ولبنان).
أثار الوضع السياسي والاقتصادي في لبنان ومضاعفات “كوفيد- 19” مخاطر نشوب اضطرابات واسعة، في بلد كانت تعدديته الثقافية والدينية بمثابة شعاع نور لبقية أنحاء المنطقة. والجامعة الأميركية في بيروت لم تصمد وحسب، بل أنتج تعليمها الليبرالي، وهو عملة نادرة في الشرق الأوسط، العديد من السياسيين البارزين ورجال الأعمال والأكاديميين والفنانين وقادة الفكر في المنطقة. كان ما لايقل عن 19 خريجاً من الجامعة الأميركية مُنتدبين للتوقيع على ميثاق الأمم المتحدة العام 1945، أي أكثر من أي جامعة أخرى في العالم.
إن التزام الجامعة الأميركية بهذه القيم، ودورها في مواصلة العمل كمنتج أول لقادة مبدعين وخلاقين يتمتعون بفكر نقدي في المنطقة، سيكون مسألة حاسمة بالنسبة إلى مستقبل هذا الإقليم.
الجامعة الأميركية في بيروت تنطلق مجددا من منصّة هذا التعليم الليبرالي لمساعدة المنطقة على خوض غمار هذا البحر اللجب من الاضطرابات. وعلى رغم الانخفاض الكبير في قيمة الليرة اللبنانية، ما أدى إلى تقليص موازنة الجامعة الأميركية إلى النصف وإلى صرف أكثر من 1000 موظف، إلا أن هذه الجامعة تنطلق ثانيةً مُستندة إلى تاريخها لتتخذ موقفاً صلباً لا تردد فيه لصالح التوجهات الليبرالية. وهي طرحت خطة ستضمن، على رغم شدّتها، بقاء الجامعة وقيمها.
قد لا تكون هناك لحظة مشؤومة أكثر من تلك التي تواجهها الجامعة الأميركية في بيروت الآن في خضم الأزمات الراهنة. في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ثمة حاجة ضخمة ماسة وأكثر من أي وقت مضى لجيل جديد من القادة المؤمنين بالتعددية، وحرية التعبير، والالتزام بعالم أكثر عدلاً. ووفق تعبير خوري:” لدي إيمان عميق بأن لبنان والمنطقة لن يكون لهم أمل قط، إذا لم يكن بمقدور الجامعة الأميركية في بيروت أن تقوم بمهمتها. إن إنقاذ هذه الجامعة يجب أن يكون أولويتنا الأولى والقصوى، ونحن سنفعل ذلك”.
ويخلص الباحثان إلى أن “كوفيد 19” يقدم إثباتاً على أنه ليس في وسع المنطقة أن تواصل العمل كالمعتاد، وعلى أنها في حاجة ماسّة إلى نظم سياسية أكثر شمولاً ونظم اقتصادية أكثر إنتاجية. إنها في حاجة إلى جيلٍ يفكّر نقدياً وبحرية، جيلٍ مُبتكِر ومُؤمن بالتنوّع وبضرورة مشاركة الجميع. هذه الخصال ضرورية للغاية من أجل شرق أوسط ينعم بالاستقرار والازدهار. كانت الجامعة الأميركية في بيروت رائدة في تخريج أشخاص يتّصفون بهذه المزايا، ويجب تطبيق نموذجها على نطاق أوسع في النظم التعليمية التي عفا عليها الزمن في المنطقة.