ممدوح حمادة – الناس نيوز
الطعام المقلي ممنوع، الطعام الدسم ممنوع، الوجبات السريعة ممنوعة النشويات البقول السكر الملح التدخين الكحول كل هذه الأشياء ممنوعة إذا كنت تريد أن تعيش أيضاً.
كان الدكتور منطلقاً في تعداد الممنوعات بعد أن اطمأن على سلامة عدنان بعد العملية الجراحية المعقدة التي أجراها له بالقلب، فقاطعه عدنان في محاولة للتخفيف من ثقل الحالة التي أضفت عليها ممنوعات الدكتور جدية مبالغا فيها تبعث على الكآبة:
– والحب ؟ هل الحب ممنوع يا دكتور ؟
– منعا باتا، الحب ممنوع منعا باتا، وخاصة الحب من طرف واحد.
ثم ودعه الطبيب ونصحه بأن يلجأ في الفترة المقبلة لمنتجع يقضي فيه الوقت مع الطبيعة بعيدا عن هموم المدينة وناسها المقيتين وثاني أوكسيد كربونها.
لم يكن عدنان الطالب في السنة الرابعة من كلية الصحافة من جماعة المنتجعات كما يقال، فهو لكي يوفر بضع مئات من الروبلات يذهب كل عام إلى سيبيريا لأداء الأشغال الشاقة مثل البناء وشق الطرقات ومختلف أنواع الحفريات وغيرها من الأعمال المضنية، فيمضي هناك شهرين ويعود في نهاية العطلة السنوية للجامعة لمتابعه الدراسة حيث تساعده هذه الروبلات في متابعة حياته حتى نهاية العام الدراسي، هذا العام ليس فقط لم يتسن له الذهاب إلى معسكرات العمل في سيبيريا وإنما عليه الذهاب إلى منتجع، هذا فقط ما كان ينقصه من أجل السعادة التامة، ولذلك فقد قرر الاستغناء عن موضوع المنتجع والمكوث في مدينة مينسك فهواؤها على كل حال ليس ملوثا، ويمكنه الذهاب إلى الغابة عندما يتسنى له هذا، على ذلك نوى وبناء عليه اتخذ قراره، ولكنه عندما سرد القصة أمام أصدقائه أخبره (ستاشيفسكي) زميله في الغرفة وصديقه بنفس الوقت بأن هناك منتجعا رخيصا في مولدافيا يمضي فيه زوج أمه إجازته كل عام وأن كل شيء رخيص هناك وتحدث له كثيرا عن ذلك المنتجع الذي يقع على ضفاف نهر الدنيستر في قرية اسمها (ستاري دوباساري)، وبالفعل فعندما حسب ما لديه من مدخرات اكتشف أنه يستطيع أن يمضي شهرا هناك وبناء عليه فقد اشترى بطاقة وسافر بالقطار إلى مدينة (أوديسا) على البحر الأسود، ومن هناك سافر بالباص إلى مدينة (كيشينيوف) عاصمة مولدافيا ثم إلى (ستاري دوبا ساري) التي وجدها تعج بالمصطافين.
في مركز الإدارة الواقع عند الباب الرئيسي للمنتجع والمشكل من غرفتين وملحقاتهما رحبوا به كما يفعلون مع جميع النزلاء، وبناء على حالته الصحية التي علموا بها من الأوراق التي قدمها لهم من المشفى سجلوه في القيود وأعطوه مفاتيح الغرفة رقم 4 الواقعة في الطابق الأرضي بالبناء الثاني المؤلف من ثلاثة طوابق والمطلة بنافذتها الواسعة على باحة المنتجع.
وضع الحقيبة في الخزانة ودخل الحمام حيث غسل نفسه من تعب وغبار الطريق الذي استمر أكثر من 36 ساعة وأراد أن ينام ولكنه لم يستطع فقد كانت صيحات لأشخاص يمرحون في الخارج تلفت انتباهه وتثير فضوله، نهض وأزاح الستارة وفتح النافذة المطلة على الباحة حيث شاهد مجموعة من النساء والرجال يلعبون الكرة الطائرة فأخذ يتابعهم ولكنه دون أن ينتبه وجد نفسه يركز نظره على إحدى اللاعبات، شكلها يوحي بأنها بين الخامسة والعشرين والثلاثين من العمر ترتدي قميصا قطنيا أبيض وتنورة بيضاء وحذاء رياضيا أبيض تماما مثل لاعبات التنس، حركتها الرشيقة وقوامها المتناسق وكل شي فيها دون ذكر التفاصيل جعل عينيه تتعلقان بها وتتابع حركاتها وانفعالاتها، فقد كانت تصرخ فرحا حين تربح وتصرخ آسفة حين تفشل ومع ذلك فإن صرخاتها على اختلاف نبرتها كانت تحمل موسيقى جميلة مفرحة، أدهشه جمالها رغم قصر قامتها بعض الشيء ولكن قصر قامة المراة لم يكن من وجهة نظره أبدا أمرا يقف عائقا أمام جمال المرأة لا بل إنه في الكثير من الأحيان من مقومات الجمال لديها، أعجبه شعرها القصير الذي كان يتراقص مع حركتها بشكل يضفي عليها جمالا مضافا، عدنان عموما مغرم بالنساء ذوات الشعر القصير، فالمرأة ذات الشعر الطويل كانت تثير في نفسه الخوف الذي يتسرب من حكاية سمعها في صغره عن امرأة جميلة جدا شعرها يتدلى حتى ركبتيها طلبت من فارس شجاع أن ينقذها من خطر ما كان يتهددها هناك، لم يعد عدنان يذكر ما هو، فأركبها الفارس وراء ظهره وقد سحره جمالها وتمنى في قرارة نفسه لو يستطيع اتخاذها زوجة له، ولكنه بعد أن قطع مسافة ما التفت صدفة إلى الخلف فشاهد منظرا أثار في نفسه الرعب فقد كان شعر المرأة أبيض تماما فأدرك أنها جنية، لم يعد عدنان يذكر ما الذي فعله الفارس بعد ذلك ولكن الرعب الذي كان سببه الشعر الطويل لا يزال مترسخا في لا وعيه حتى الآن، انتبه لنفسه فجأة، لاحظ كيف سيطرت تلك المرأة التي تدير ظهرها جهته على اهتمامه لدرجة أنه لم يكن يرفع نظره عنها، وتذكر كلام الطبيب بأن الحب وخاصة من طرف واحد ممنوع منعا باتا، ليس الحب فقط بل النساء بشكل عام بحب أو بغير حب يجب أن يكون بعيدا عنهن لعدة أشهر على أقل تقدير، فهو بعد غير جاهز للمغامرات الغرامية حتى العابرة منها ، أغلق النافذة وأسدل الستارة وقرر أن يخلد للنوم لكي يرتاح من تعب الطريق ولكي يتمكن من النوم وضع في آلة التسجيل التي ترافقه أغنية الأطلال لأم كلثوم وقرر أن يغفو عليها كما يفعل عادة في مسكن الطلبة وبالفعل هذا ما حصل فمع انتهاء الوجه الأول من الشريط كان بفعل التعب قد استسلم للنوم.
ولكن من قال إن النوم سينقذه منها ؟ أبدا فقد تسللت إلى خلف أجفانه بمجرد أن سيطر عليه الوسن وأصبح في عالم الحلم، هناك أيضا شاهدها تلعب الكرة الطائرة تنورتها البيضاء تتراقص بشكل متناسق مع حركتها وبين الفينة والفينة تلاعب نسمة أطرافها فتكاد ترفعها ولكنها لا تفعل، أمسك بيدها وقادها إلى الغرفة التي كان قد أشعل فيها عشرات الشموع ووزعها في أرجاء الغرفة وجعلها ترقص على موسيقى أخذت تطلقها آلة التسجيل التي فوق الطاولة وأخذ فستانها يتطاير أما هو فأخذ يسكب النبيذ في كأسيهما، في الحقيقة إذا أردنا توخي الدقة فإن من كان يحلم بها هو غرائزه التي استيقظت عندما كان يراقبها من النافذة ولولا التعب الشديد الذي كان يسيطر عليه لحلمت هذه الغرائز الجائعة بما هو أكثر من ذلك وفعلت أشياء لا تليق ولكن الحلم انتهى على خير وغادرت هي الغرفة بشكل مفاجئ تاركة ظلالها ترقص على الجدران بجنون.
استيقظ من نومه بعد فترة لم يتمكن من معرفة كم استغرقت من الزمن، أيقظه الجوع فجهز نفسه وتوجه إلى المطعم، وفي الطريق فكر مليا بتلك المرأة وحاول إقناع نفسه بألا يعيرها اهتماما وأن ينظر إليها مثل أي معلم من معالم الجمال، وردة مثلا أو شجرة أو قطة جميلة أو سمكة ذهبية وأخذ يعدد في نفسه الأشياء التي يراها جميلة والتي يحبذ أن يكون تفاعله مع تلك المرأة مثل تفاعله معها، وبقيت هذه الأفكار تتقلب في رأسه حتى دخل إلى المطعم فكانت أول شيء وقعت عليه عينيه وكأنما في تحد مباشر لكل القرارات التي اتخذها للتو بعدم التفاعل معها، ولكي لا ينجر مع ذلك قرر أن يجلس خلف طاولته على الكرسي التي يدير فوقها ظهره إلى تلك المرأة، ولكن عبثا فعل ذلك فقد كانت صورتها تنعكس في المرآة الكبيرة المعلقة على الحائط المقابل له وكانت الهالة الضبابية التي تم بخّ أطراف المرآة بها تضفي على الفتاة سحرا أكثر مما تبدو عليه بدون تلك الهالة، في أكثر من مرة سكب الحساء على طرف الطاولة التي يجلس خلفها ولوث غطاءها لأن الملعقة كانت تميل أمام فمه بسبب عدم التركيز إلا على صورة الفتاة، لم يتمكن من متابعة الطعام، فقد توصل إلى نتيجة تفيد بأن هذه الفتاة تمارس معه شيئا يشبه السحر وعليه لكي يفك نفسه من هذا السحر أن يتحداها وينصرف غير عابئ بها، وهذا ما حصل، فقط نهض تاركا نصف الحساء وغير منتظر وصول بقية الوجبة وبعد أن خرج ألقى نظرة إلى الداخل عبر النافذة فشاهد النادلة ترفع صحن حسائه وتسحب غطاء الطاولة الملوث ثم تابع سيره باتجاه المبنى الذي تقع فيه غرفته، ولكن قراره بالانسحاب مرفوع الرأس لم يصمد سوى حتى منتصف الطريق حيث قامت قوة مجهولة بجعله يستدير إلى الخلف بشكل لا إرادي ويعود باتجاه المطعم مترددا في البداية ثم حث الخطى وكأنه يخشى أن يفوته شيء، دخل إلى المطعم من جديد وأراد أن يجلس في نفس المكان الذي يستطيع منه مراقبة تلك المرآة ضبابية الحواف، ولكن رجلا آخر كان قد احتل مكانه وكانت النادلة تضع صحن الحساء وعدة قطع من الخبز أمامه على الطاولة، لم يتمكن من أن يكون حياديا عندما شاهد ذلك الرجل فعبر عن تذمره من الموقف:
– تبا .
وبحث بعينيه عن طاولة ربما تصلح لكي يجلس إليها ويحتفظ بقدرته على المتابعة فلم يجد وقرر أن يعود أدراجه، وفي الغرفة وضع شريطا لا على التعيين من تلك الأشرطة التي جلبها معه فكان لسعدون جابر الذي أشعلت أغنيته مشاعره أكثر فأوقف الشريط فورا، ووضع كاسيت أجنبي ولكنه لم يحز على إعجابه فأوقفه هو الآخر ووضع إبرة المذياع على راديو (ماياك) الذي كانت تصدح منه موسيقى تشبه موسيقى أغنية لفيروز (شتي يا دنيا تا يزيد) التي أعلن المذيع في نهايتها أنها للموسيقار الأرمني (آرام خاتشوتريان)، فكر عدنان هل هذا الأمر مؤقت ريثما يسترد قلبه عافيته وقدرته على الحب وبقية الانفعالات، أم أنه حكم مبرم عليه بأن يعيش بقية حياته مثل رجل آلي لا يحق له أن يشعر بالمتعة من أي نوع؟ هو قادر على الاستغناء عن أي طعام مهما كان شهياً، وهو عندما يريد ذلك يتبع حمية قاسية لا يعرفها أحد وينجح فيها بسهولة بالغة، إنه بكل بساطة يجعل نفسه يكره الطعام ويشعر منه بالقرف حين يريد اتباع حميته، يستطيع تجاهل الكحول والسجائر التي كان يظن أنه غير قادر على التخلص من ولعه بدخانها، ولكن أن يعيش بدون حب فهذا مستحيل، يا سيدي بلا حب لا داعي للحب ولكنه يحتاج إلى امرأة وعليه أن يفعل وإياها ما منعه الطبيب عنه، لأن عليه يوما ما أن يبني أسرة فكيف يتصرف إن كان ذلك يشكل خطرا على حياته، لا بد أنها مرحلة مؤقتة، عندما يعود إلى مدينة مينسك سيذهب إلى الطبيب ويسأله عن كل تلك التفاصيل وإذا لم يكن هناك أمل في الشفاء من هذه الحالة فإنه لن يلتزم بالتعليمات وإن كان عليه أن يموت فليمت في أحضان امرأة يحبها، هذا أسهل وأكثر رومانسية من الحياة مئة عام كرجل آلي بمشاعر معدنية، هذه الأفكار التي دارت في رأسه جعلت تأثير المرأة عليه يضعف قليلا وجعلته يتوصل إلى طريقة يتخلص فيها من سيطرة تلك المرأة على عقله، فقد قرر أن ينظر إلى النساء الأخريات وقرر أن يكرهها كما كره بيغماليون منحوتته التي بعثت فيها الآلهة الروح بناء على طلبه فأخذ يرى فيها مساوئ الكائن الحي، أخذ عندما تتعب يشم رائحة عرقها التي لم تكن تنبعث من الحجر عندما كانت حجرا ويشم رائحة فمها أحيانا وأشياء أخرى كثيرة لم يكن الحجر الذي يجسدها يقوم بها، هو سيضع نفسه مكان بيغماليون وسيجعل تلك المرأة الخارقة الجمال منحوتة بيغماليون وإضافة إلى ذلك فإنه سيلتفت إلى النساء الأخريات ويحاول اكتشاف جمالهن، لا بد أنه بهذا الشكل سيتحرر من سطوتها، وبناء على ذلك فقد خرج لعله يراها فينفذ ما توصل إليه من مخططات لأجل هذا الغرض، تمنى أن يشاهدها في منظر مزرٍ.
عند خروجه من المبنى تناهت إلى أسماعه أصوات موسيقى تشبه موسيقى الغجر الصاخبة فتوجه إلى هناك لعل الموسيقى تساعده في الوصول إلى غايته التي أزمع الوصول إليها وكان كلما اقترب أكثر كلما علت أصوات الموسيقى التي تبين أنها تنبعث من على خشبة مسرح في الهواء الطلق تجري عليه الاحتفالات في المنتجع.
كان المسرح عبارة عن غرفة إسمنتية صغيرة ينقصها الجدار الرابع ولها درجان من الجانبين وباب في الخلف يبدو أن الفنانين يدخلون ويخرجون منه أثناء العرض، وعلى الخشبة الإسمنتية كانت تنتشر مجموعة من الموسيقيين يشكلون بآلاتهم فرقة صغيرة تشبه إلى حد بعيد تلك الفرق التي تغني في الأعراس، وكان الموسيقيون منهمكين بالعزف بشكل يدل على مدى حماسهم وفي الأسفل كانت مجموعة من الراقصين تدور في حلقة مجنونة حول رجل يرقص في الوسط ملوحاً بمنديل أبيض ملوث بآثار عشب أخضر.
شعر عدنان بالسرور عندما لم يشاهدها في المكان لا بين الراقصين ولا بين المتفرجين وأخذ ينقل نظره على النساء المتواجدات هناك بحثا عن امرأة سيجعلها أجمل منها، ثم اتخذ مكانا لمراقبة الراقصين قرب جدار هناك كان يقف عنده أيضا عجوز يرتدي بدلة رياضية وفي رجله جوربان صوفيان دس تحت حوافهما أطراف البيجاما مما يدل على أنه ممن يشعرون بالبرد بسرعة، سأله عدنان عن تلك الرقصة إن كانت شعبية أم هي مجرد ارتجال على أنغام الموسيقى فمد إليه العجوز قدحاً من الفودكا فكر عدنان بالاعتذار عنه ولكنه قال مخاطبا نفسه (قدح واحد لن يؤذي) فأخذه وسكبه في جوفه بينما أخبره العجوز بأن هذه رقصة شعبية مولدافية، توقفت الموسيقى بشكل مفاجئ فقام الرجل الذي يرقص في الوسط بإلقاء المنديل على صدر امرأة في الحلقة الراقصة فصفق الجميع، وأخذت تلك المرأة المنديل وفرشته على الأرض ثم ركعت فوقه بركبة واحدة ومثلها فعل الرجل وعانقها في قبلة استمرت إلى أن اندلعت الموسيقى من جديد، فنهض الرجل وانضم للحلقة بينما بقيت المرأة في الوسط ترقص وتلوح بالمنديل، وعندما سأل العجوز عن تفاصيل هذه الرقصة مد له العجوز قدحا آخر من الفودكا فاعتذر عدنان وقام العجوز بسكب الفودكا في جوفه، و قال له إن هذه الرقصة كانوا يرقصونها في السابق في أعياد يقوم فيها الشباب بانتقاء الفتيات للزواج وشرح العجوز بشكل مفصل عن الرقصة لدرجة تهيأ فيها لعدنان بأنه يقوم بتأليف ما يقوله بشكل ارتجالي، فقد تبين أن هذا العجوز ليس مولدافيا وإنما من تركمانيا ويزور مولدافيا لأول مرة في حياته وهذا ما يبرر شعوره بالبرد فهو سليل البلاد الحارة، وسرعان ما أقبلت زوجته التي جعلها الزمن وكثرة الولادات تتمدد بالعرض، فهو كما قال لي أب لأربعة عشر ولدا وبنتا ولو أن الأطباء لم يمنعوا زوجته من الإنجاب ويقوموا لأجل ذلك باستئصال الرحم حفاظا على صحتها لكان أنجب أكثر ولكن زوجته التي وصفها بالفرس المريضة لم تصلح لذلك، أخفى العجوز زجاجة فودكا صغيرة الحجم سعة 250 مل والقدح في جيبه بينما جرته زوجته من يده وعنفته متهمة إياه بأنه جاء ليستمتع بمشاهدة الصبايا فرد عليها مؤكدا التهمة، وأضاف بأن ذلك أفضل بكثير من الاستمتاع بمشاهدتها أما هي فتشممته بأنفها وصاحت به :
– سكير.. تفوووو
انصرف العجوز مع زوجته وبقي عدنان يراقب الحلقة وسرعان ما اكتشف انضمام حبيبته للرقص دون أن ينتبه لذلك بسبب انشغاله بالرجل العجوز، نعم هكذا سماها (حبيبتي) لفظ الكلمة بشكل لا شعوري حين رآها ترقص في الحلقة، كان حبيبته هي الراقصة الأكثر جنونا هناك وكانت ترتدي فستانا خمريا فضفاضا إلى تحت ركبتيها بقليل ولكنه كثيرا ما كان ينحسر بسبب حركاتها الجنونية، ويمكن القول إن ثوبها هذا كان أكثرجنونا منها، حذاؤها الذي كان يعيقها عن الرقص قامت بقذفه من رجلها إلى الخلف دون أن تتوقف عن الرقص فطارت فردتاه تباعا وسقطتا بعيدا في زاويتين مختلفتين بينما تابعت هي الرقص حافية القدمين، لقد كانت الحورية التي كان يتمنى أن تأتيه في الحلم أو في اليقظة وهو الآن واقع تحت سحرها ولا يستطيع أن يفعل كما فعل بيغماليون فهي أولا ليست منحوتته التي قدها من الصخر كما فعل بيغماليون، وثانيا فإن آلهة بيغماليون لن تهب لمساعدته كما هبت لمساعدة بيغماليون، إنه الآن أشبه بأوليس الذي تبحر سفينته قرب جزيرة (السيرينات) اللواتي لا يستطيع مقاومة سحر شدوهن أحد، ولكن الفرق بينه وبين أوليس أن أوليس كان موثقا إلى سارية السفينة أما هو فكان مطلق السراح ولن يمنعه شيء من الوقوع في شباك هذا السحر والانقياد وراءه، فكر بأن يتوجه إلى حيث رمت حذاءها ويأخذه خلسة ويحتفظ بشيء منها ويغادر المنتجع نهائيا، فهو يدرك أن أكثر من ذلك أمر مستبعد حاليا وربما إلى الأبد كما أنها ربما تكون مرتبطة برجل ما له قلب قادر على الحب، ولكنه خشي أن يراه أحد فيتسبب له ذلك الحرج وربما يتهم بأنه سارق أحذية، استيقظ من أفكاره تلك مصعوقا عندما شاهد الراقص الأصلع الذي كان يرقص في وسط الحلقة يقوم برمي المنديل على صدرها، فقامت هي بأخذه بطيب خاطر ومدته على الأرض وركعت بركبتها اليسرى عليه بينما ركع الأصلع بركبته اليمنى وراحا في عناق حميم، تسارعت خفقات قلب عدنان خلاله إلى أقصى درجة وكاد يخرج عن حياديته ويقفز إلى وسط الحلقة ويركل ذلك الكلب البيروقراطي على أنفه ويرميه بعيدا عنها ، هكذا وصفه (الكلب البيروقراطي) فقد أوحى له شكل هذا الأصلع بأنه موظف بيروقراطي تم منحة إجازة صحية يقضيها في هذا المنتجع من قبل مدير لا بد أن الأصلع يتملقه، أما صفة الكلب فقد أطلقها عليه ليس لأنه بيروقراطي وليس لأنه أصلع ولكن لأنه كالن يقبل حبيبته نعم حبيبته، هكذا هي الآن حتى إن لم يكن لها علم بذلك، نظر إلى الفرقة الموسيقية فشاهدهم يراقبون وعلى وجوههم ابتسامات، وكاد يصرخ بهم (هيا أيها الأوغاد تابعوا العزف قبل أن أطعن هذا الحقير) وتحسس سكينا في جيبه كان يستخدمها لتقشير الفاكهة وبري أقلام الرصاص، تابع الموسيقيون العزف فتابعت الحلقة دورانها الراقص بينما أخذت حبيبته تتقافز ملوحة بالمنديل في وسط الحلقة، بينما خرج الأصلع من هناك وأشعل سيجارة وأخذ ينفث دخانها وعلى وجهه معالم الارتياح وكأن هدفه من الرقص كان تلك القبلة التي انتزعها من حبيبته، كان عدنان يراقبه بحقد وحين التفت الأصلع إليه صدفة التقت نظراتهما فابتسم الأصلع ولم يجد عدنان بدا من الرد بابتسامة فاترة فيها من الكراهية أكثر ما فيها من الود وأزاح بصره بسرعة، لن تنتهي المهزلة، فكر عدنان، ستلقي هي الآن بالمنديل على رجل ويقوم هذا بتقبيلها ثم يلقي رجل آخر المنديل عليها وهكذا، أخذت تشده إلى الرقص أمراس كتان كتلك التي علق بها امرؤ القيس الثريا إلى الثرى، وكان يقاوم ذلك بقوة ولكن عزيمته كانت تلين رويدا رويدا عندما ألقت حبيبته المنديل على صدر رجل آخر، مد يده إلى جيبه وأخرج من هناك عبوة يحتفظ فيها بعدة أقراص دواء وصفها له الطبيب لكي يتناولها إذا داهمته أزمة ما في عمل القلب، ألقى منها قرصين في حلقه ثم وتوجه إلى الحلقة التي كانت تصفق وتهتف بمرح للعناق الجاري على المنديل الأبيض، دس نفسه بين الراقصين المتجمهرين واستعد للبدء، حتى أنه لكي لا يتأثر بشكل سلبي قد أزاح بصره كليا عن حبيبته التي يقاسمه فيها رجل آخر على المنديل الأبيض.
قبلة واحدة فقط ربما تعيد قلبي إلى الحياة من نصف موته كما في الحكايات تماما، ولم لا فقد تكون الأحداث التي جرت في الحكايات قصصا حقيقية حدثت يوما ما بشكل ما، ربما يكون في الإنسان طاقة كامنة تخرج كل ألف عام وتصنع المعجزات ونحن لا نصدقها لأنها نادرة الحدوث، أخذ عدنان يقنع نفسه بهذه الأمور لكي لا يسمح لرأسه بالتفكير بالخروج فقد كان خائفا وقلقا كشخص يقدم على مهمة انتحارية، انطلقت الموسيقى وانضمت حبيبته إلى الرقص وبقي الرجل الذي كان يحتقره دون أن ينظر إليه كما احتقر قبله الأصلع يرقص في الوسط، توقفت الموسيقى فألقى الرجل المنديل على امرأة أخرى وبدأ العناق من جديد، بينما أخذ هو يلتقط أنفاسه مستغلا توقف الرقص، ولكن الرقص بدأ من جديد قبل أن يتمكن من السيطرة على لهاثه بشكل نهائي فتابع الرقص بجنون هذه المرة لعله يلفت نظر المرأة التي في الوسط فتلقي بالمنديل على صدره ويقوم هو في الجولة التالية بإلقاء المنديل على صدر حبيبته، وبالفعل فقد لفت انتباه المرأة التي نظرت إليه ورقصت أمامه قليلا مجارية إياه ولأنها لم تفعل ذلك مع راقص آخر فقد كان شبه متأكد بأنها ستلقي المنديل على صدره، ولكن الموسيقى توقفت وظهرها إليه فألقت بالمنديل على صدر رجل مقابلها وبدأ عناق جديد حاول هو فيه التقاط أنفاسه، ولكنه كما في المرة الأولى لم يتمكن من إيقاف لهاثه فقد انطلقت الموسيقى من جديد وعاد معها إلى الرقص بحماس أكثر لكي يتميز عن بقية الراقصين فيلفت نظر المرأة القادمة إليه وتلقي بالمنديل على صدره، وتتابعت الجولات وسقط المنديل على صدر حبيبته مرة أخرى وسقط على صدور كل الرجال الذي يرقصون بعضهم أكثر من مرة إلا هو، لم يسقط المنديل على صدره أبدا رغم كل محاولاته ولكنه لم يشعر باليأس، بل أخذ يرقص بعنف يدق رجله بالأرض كما في الروايات التي قرأ فيها عن راقصين مجانين ويقفز ويصرخ مثلهم على أمل أن يسقط المنديل على صدره (إن حدث ذلك ستفوح من قلبي رائحة الياسمين) هكذا فكر ولكن المنديل كأن يأبى أن يفعل ذلك، أحس بأنه عاجز عن التقاط أنفاسه وأصبح يتنفس بصعوبة بالغة ولكنه كان متأكدا بأن المنديل سيسقط على صدره في الجولة القادمة، أحس بوخزات في صدره ولكن صوتا على الأغلب هو صوته، كان يهمس في أذنه : (بعد قليل سيسقط المنديل على صدرك وسوف تلقيه أنت على صدرها فتفرشه وتركع أمامك فتركع أنت وتغطان في عناق حميمي أبدي لأن الزمن سيتوقف والموسيقى لن تعود إلى العزف مرة أخرى، لا تيأس، إن هي إلا دقائق وستطوقها بذراعيك وتقبلها وستدرك هي أنك تحبها، ستجعلها أنفاسك تشعر بذلك سيدهش عناقكما الراقصين فينفضون من حولكما ويحمل الراقصون آلاتهم وينصرفون احتراما لقدسية هذا الحب.. تابع .. تابع ولا تتوقف) ولكن المنديل من جديد سقط على صدر رجل آخر، أخذ قلبه يدق أضلاعه بعنف ولكنه لم يسمع صوته، لقد كان الرجل الوحيد الذي لم يسقط المنديل على صدره وكان كذلك الرجل الوحيد الذي يعني له سقوط المنديل على صدره فرحا لا يتسع له الكون، كاد يصرخ متوسلا وربما فعل ذلك ولكن صوته لم يخرج، انهمرت الدموع من عينيه وأخذ يبكي من القهر ولكنه ظل يرقص، أخذ يشعر وكأن سكينا ينغرس في صدره فكان يكز على أسنانه محاولا كتم الألم ولكنه ظل يدور ويدور، أخذت وجوه الراقصات والراقصين تختلط ببعضها البعض ثم غابت عن عينيه تماما، ولم يعد يرى سوى الأضواء المحيطة بالحلقة وقد تحولت إلى دوائر حمراء وصفراء، وأصبحت الموسيقى بعيدة وضعيفة وأخذت الإضاءة تخفت وتبتعد والدوائر تتحول إلى أشرطة متقطعة تضمحل تدريجيا وتخفت ثم تختفي ويحل محلها لون أسود كثيف وخيّم صمت مطبق، تشنج، رفع يديه إلى الأعلى وكأنه يريد أن يتمسك بالحياة ثم شهق وتراجع خطوة إلى الخلف خارجا من حلبة الرقص وقادته قدماه عدة خطوات عشوائية قبل أن يهوي على ظهره في الظلمة التي لم تكن الإضاءة مسلطة عليها، وظل المنديل ينتقل من صدر إلى صدر إلى أن انتهى الرقص وأخذ الجميع ينصرفون دون أن ينتبه لغيابه أحد سوى شخص لاحظه على الأرض فعبر من فوقه وآخر تعثر به في الظلام فصرخ في جثته:
– إن لم تكن حِملَ الخمر فلا تسكر … أحمق.
في الصباح الباكر كان هناك وحيدا باردا مستلقيا على ظهره وعلى عدة أمتار منه منديل أبيض صبغ بلون العشب لكثرة ما ركعت عليه الركب ليلة البارحة، حملته نسمة استيقظت للتو وألقت به على صدره ثم هبت نسمة باردة أخرى طارت به بعيدا إلى أن غاب في الأفق تاركا جثة ملقية على العشب روحها لا يزال يرقص في حلبة الرقص بجنون لعل المنديل يسقط على صدره فيعود إلى جثته ويجعلها تنهض من جديد.