ما إن أصدرت محكمة “كوبلنز” حكمها بسجن “إياد الغريب” أربع سنوات ونصف حتى تعالت مجدداً الأصوات المعارضة والمنددة تارة والمشككة تارة أخرى بمحاكمة أشخاص انشقوا عن نظام الأسد بحجة أن انشقاقهم “أفاد الثورة وخدمها”! وعلّق بعض من تعرضوا للتعذيب والسجن لسنوات طويلة في سجون الأسد على الحكم قائلاً: “إن الوضع الدولي العام والأجندات السياسية في سوريا، لم تترك لحقوقيينا سوى أن يحاكموا منشقين”. واستناداً لهذا الرأي يمكن القول إن نجاح “حقوقيينا” في الادعاء على أكثر من ستين مسؤولاً أمنياً في نظام الأسد وفي مقدمتهم بشار الأسد وشقيقه ماهر بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية لم يكن ليتم لو لم ينشقوا عن نظام الأسد كما فعل رسلان والغريب! يبدو أن هذا البعض نسي او تناسى عمداً أنه سبق أن صدرت مذكرات توقيف دولية بحق رئيس إدارة المخابرات الجوية السابق اللواء جميل حسن، ورئيس مكتب الأمن الوطني اللواء علي مملوك، ورئيس فرع التحقيق في المخابرات الجوية العميد عبد السلام محمود، وأن هناك مذكرات توقيف دولية أخرى صدرت لكن لم يعلن عنها وأرسلت للإنتربول الدولي لتنفيذها. كما تناسوا أيضاً قضية توقيف الطبيب السوري علاء موسى في ألمانيا المتهم بارتكاب عمليات تعذيب للمعتقلين في المشافي العسكرية التابعة للأسد.
هكذا بكل بساطة يحاولون نسف كل الجهود التي يقوم بها بعض المحامين والنشطاء من السوريات والسوريين بالتعاون مع العديد من المنظمات دولية المعنية بحقوق الإنسان وفي مقدمها المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان في ملاحقة مرتكبي الجرائم سواء المتواجدين في أوروبا أو الموجودين داخل سوريا، وإعداد الملفات وتكوينها وتدعيمها بالأدلة والشهود، والتواصل مع الضحايا من اللاجئين السوريين المتواجدين في أوروبا وحثهم على تقديم ما لديهم من أدلة وشهادات ضد المتهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في سوريا للسلطات المختصة.
لقد طرقنا أبواب مجلس الأمن لأجل إحالة ملف الجرائم المرتكبة في سوريا إلى محكمة الجنايات الدولية أو إنشاء محكمة خاصة بسوريا إلا أن الفيتو الروسي الصيني لم يكتفِ بمنع المجلس من إحالة ملف سوريا إلى محكمة الجنايات الدولية وحسب، بل وعطّل أيضاً كل المحاولات لتنظيم محاكمة دولية على غرار المحكمة الخاصة بيوغسلافيا.
أمام هذا الواقع لم يكن أمامنا إلا البحث عن منفذ آخر نستطيع من خلاله ملاحقة مرتكبي جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية في سوريا، فلم نجد سوى اللجوء إلى المحاكم الوطنية في بعض الدول الأوروبية التي يسمح نظامها القانوني باللجوء إلى نظام الولاية القضائية العالمية كما في ألمانيا والنمسا والسويد والنرويج، هذا النظام الذي يتيح ملاحقة مرتكبي الجرائم الخطيرة بصرف النظر عن جنسية المجرمين ومكان ارتكاب الجرم. ولولا ذلك لما تمكّن الضحايا والمحامون والنشطاء من تنظيم قضايا ضد أكثر من ستين مسؤولاً في نظام بشار الأسد ممن أجرموا بحق السوريات والسوريين وتقديمها للقضاء المختص في عدد من الدول الأوروبية.
ونحن كنشطاء مهتمين بالدفاع عن حقوق الانسان، لسنا طرفاً سياسياً ولا عسكرياً، بل نعمل كمتطوعين، ولا يمكننا أن نقف متفرجين ونحجب المساعدة عمن يحتاجها، فأساس عملنا يقوم على مساعدة الضحايا وتمكينهم من ولوج القضاء لاستيفاء حقوقهم وملاحقة المجرمين من أي طرف كانوا. ولا يحق لأي كان ومهما كان أن يطلب من الضحايا عدم محاكمة رسلان أو غيره أو التنازل عن حقوقهم. بينما يستسهل البعض فعل ذلك، دون أي إحساس بمعاناة الضحايا، فبأي حق نطلب ممن تعرّض للتعذيب أو قُتل أخوه أو ابنه تحت التعذيب أن يتنازل عن حقه؟
لقد سبق أن أكدنا مراراً أن هذه المحاكمة التي تجري اليوم في “كوبلنز” لا تستهدف المنشقين لأنهم انشقوا عن نظام الأسد، بل لأنهم ارتكبوا جرائم بصفتهم جزءاً من النظام الأمني السوري، ويجب أن يحاسبوا عليها، وإن التغيير والانتقال من ضفة لأخرى لا يمنح صاحبها صك براءة عن الجرائم التي ارتكبها، وإذا قبلنا بخلاف ذلك فإننا نعطي المبرر لأي جهة أن تحمي مجرميها، للأسد أن يحمي مجرميه الذين وقفوا معه وللميليشيات المسلحة أن تحمي هي الأخرى مجرميها الذين قاتلوا معها، علماً أن الجرائم المنسوبة للمتهمين هي من النوع الذي لا يسقط بالتقادم ولا يشملها أي عفو، والقضاء المختص وحده من يقرر إن كان مذنباً هذا المتهم أم لا، والضحايا وحدهم من يملكون حق مسامحة المجرمين أم لا.
ويهمني أن أؤكد من جديد أننا لا نركز على ملاحقة المنشقين فهم ليسوا هدفنا الآن، بل جل تركيزنا ينصب على ملاحقة المسؤولين عن التعذيب والقتل في نظام الأسد. أما بالنسبة لإياد الغريب وأنور رسلان فالسلطات الألمانية هي من بادرت إلى التحقيق معهما وتوقيفهما وإحالتهما للمحاكمة. وبكل الأحوال فالمنشقون الذين تمت ملاحقتهم حتى الآن لا يتجاوز عددهم الاثنين فقط، هما “العميد أنور رسلان رئيس قسم التحقيق في فرع الخطيب والمساعد إياد الغريب”. بينما المستهدفون بالملاحقة ممن ينتمون لنظام الأسد يتجاوز عددهم الستين مسؤولاً أمنياً وعسكرياً وسياسياً وعلى رأسهم بشار الأسد.
بعيداً عن كل محاولات تسخيف محاكمة “كوبلنز”، ورغم محاولة البعض النيل من أهمية الحكم الذي صدر بحق عنصر من مخابرات الأسد، فإن القرار الذي أصدرته المحكمة يوم الرابع والعشرين من شباط قد دخل التاريخ كأول حكم قضائي في العالم يتعلق بالجرائم التي ارتكبها ومازال يرتكبها نظام الأسد في سوريا، هذا الحكم يشكل في حيثياته وقرار الاتهام وأقوال الشهود والمدعين والخبراء إدانة لرموز النظام في سوريا وأجهزته الأمنية، وهذا ما بدا واضحاً في المرافعة التي قدمها المدعي العام في المحكمة حيث أكد “أن مشكلة سوريا ليست التنظيمات المتطرفة، كداعش بشكل رئيسي وإنما المشكلة الأولى والأهم هي النظام في سوريا وبقاؤه في السلطة حتى يومنا هذا، وأنّ جهاته الأمنية هي من ارتكبت الفظائع بالشعب السوري وذلك من باب الانتقام منه على مساعيه المشروعة من أجل الحرية والديمقراطية، كما تحدث عن قتل وملاحقة المتظاهرين واعتقالهم تعسفياً وتعذيبهم. إنه ليس من الممكن النظر إلى وتقييم مسؤولية إياد الغريب الجنائية بمعزل عن الجرائم التي يرتكبها النظام في سوريا، وليس آخرها حضوره الملموس في المحكمة -أي النظام في سوريا- من جهة التهديدات التي طالت المدعين بالحق المدني والشهود.
نعم، إن هذا الحكم يشكل خطوة مهمة وتاريخية على طريق تحقيق العدالة للسوريات والسوريين، ويبعث رسالة قوية لكل المجرمين الذين ما زالوا يرتكبون أفظع الجرائم في سوريا أن زمن الإفلات من العقاب قد ولىّ، وهو رسالة أيضاً لكل المتواطئين الذين سهّلوا وساعدوا المجرمين في ارتكاب جرائمهم بأنهم ليسوا بمأمن من العقاب، وأنهم لن يجدوا أعذاراً تُبرئهم من تبعات الجرائم التي شاركوا في ارتكابها بأي طريقة كانت. وكلنا أمل أن يفتح هذا الحكم الباب واسعاً أمام ملاحقة جميع مرتكبي جرائم الحرب وضد الإنسانية في محاكم جميع دول العالم وخاصة في الدول الأوروبية.
أخيراً، لابد من إعادة التأكيد للمرة الألف أن هذه المحاكمة ليست نهاية المطاف، وهي ليست كل شيء، بل هي مجرد خطوة أولى، ولكنها خطوة مهمة وتاريخية في طريق طويل لتحقيق العدالة، وهي مدخل مهم حتى يتعرّف العالم على الآلة الجهنمية التي يمارسها النظام الأمني في سوريا من تعذيب وقتل واغتصاب بحق السوريات والسوريين وصولاً إلى إدانة نظام الأسد بكافة رموزه وأركانه. وندرك أن العدالة لا يمكن أن تتحقق في سوريا إلا عندما تسمح الظروف بإنشاء محاكم وطنية قادرة على إجراء محاكمات نزيهة وعادلة.
ميشال شماس